فصل: الباب الثاني من المقالة الخامسة في البيعات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الباب الثاني من المقالة الخامسة في البيعات:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في معناها:

البيعات جمع بيعة، وهي مصدر بايع فلانٌ الخليفة يبايعه مبايعةً، ومعناها المعاقدة والمعاهدة، وهي مشبهة بالبيع الحقيقي. قال أبو السعادات ابن الأثير في نهايته في غريب الحديث: كأن كل واحدٍ منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره. ويقال: بايعه، وأعطاه صفقة يده، والأصل في ذلك أنه كان من عادة العرب أنه إذا تبايع اثنان صفق أحدهما بيده على يد صاحبه.
وقد عظم الله تعالى شأن البيعة وحذر من نكثها بقوله خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونكَ إنَّما يُبَايِعُونَ الله يَدُ فَوْق أيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فإنَّما يَنْكُثُ على نَفْسِه ومَنْ أوْفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيه أَجْراً عَظِيماً}. وأمر بمبايعة المؤمنات في قوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إذا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ على أنْ لا يُشْرِكْنَ باللهِ شَيئاً وَلاَ يَسْرِقْن وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أيْدِيهِنَّ وأَرْجُلِهنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ واسْتَغْفِرْ لَهُنَّ الله إنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وبايع النبي صلى الله عليه وسلم، الصحابة رضوان الله عليهم بيعتين.

.الفصل الثاني في ذكر تنويع البيعات:

وهي نوعان:

.النوع الأول: بيعات الخلفاء:

وفيها سبعة مقاصد:
المقصد الأول في أصل مشروعيتها:
فالأصل في ذلك بعد الإجماع ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّه لمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، اجتمعت الانصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أميرٌ ومنكم أميرٌ، فذهب إليهم أبو بكرٍ وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكرٍ، وكان عمر يقول: ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاماً أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر؛ ثم تكلم أبو بكرٍ فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال الحباب بن المنذر: لا والله لا نفعل! منا أميرٌ ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء. فبايعوا عمر أو أبا عبيدة. فقال عمر: بل نبايعك فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايع الناس.
وهذه أول بيعةٍ بالخلافة كانت في الإسلام، ولكن لم ينقل أنه رضي الله عنه كتب له مبايعةٌ بذلك، ولعل ذلك لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا بايعوا لا يجحدون البيعة بعد صدورها، بخلاف ما بعد ذلك.
المقصد الثاني في بيان أسباب البيعة الموجبة لأخذها على الرعية:
وهي خمسة أسباب:
السبب الأول- موت الخليفة المنتصب من غير عهد بالخلافة لأحدٍ بعده، كما في قصة الصديق المتقدمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أو بتركها شورى في جماعة معينة، كما فعل عمر، رضي الله عنه، عند وفاته حيث تركها شورى في ستة: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم.
السبب الثاني- خلع الخليفة المنتصب لموجب يقتضي الخلع، فتحتاج الأمة إلى مبايعة إمام يقوم بأمورها، ويتحمل بأعبائها.
السبب الثالث- أن يتوهم الخليفة خروج ناحيةً من النواحي عن الطاعة فيوجه إليهم من يأخذ البيعة له عليهم، لينقادوا لأمره، ويدخلوا تحت طاعته.
السبب الرابع- أن تؤخذ البيعة للخليفة المعهود إليه بعد وفاة العاهد، كما كانت الخلفاء الفاطميون تفعل في خلافتهم بمصر، وكانوا يسمون البيعة سجلاً كما كانوا يسمون غيرها بذلك.
السبب الخامس- أن يأخذ الخليفة المنتصب البيعة على الناس لولي عهده بالخلافة بأن يكون خليفةً بعده إمضاءً لعهده، كما فعل معاوية رضي الله عنه في أخذه البيعة لولده يزيد.
المقصد الثالث في بيان ما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة البيعة:
واعلم أنه يجب على الكاتب أن يراعي في كتابة البيعة أموراً: منها- أن يأتي في براعة الاستهلال بما يتهيأ له من اسم الخليفة أو لقبه كفلان الدين، أو لقب الخلافة، كالمتوكل أو المستكفي، أو مقتضى الحال الموجب للبيعة من موتٍ أو خلع ونحوهما، أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى.
ومنها- أن ينبه على شرف رتبة الخلافة وعلو قدرها ورفعة شأنها، وأنها الغاية التي لا فوقها، والدرجة التي لا بعدها، وأن كل رتبة دون رتبتها، وكل منصب فرعٌ عن منصبها.
ومنها- أن ينبه على مسيس الحاجة إلى الإمام، ودعاية الضرورة إليه، وأنه لا يستقيم أمر الوجود وحال الرعية إلا به، ضرورة وجوب نصب الإمام بالإجماع، وإن شذ عنه الأصم فخالف ذلك.
ومنها- أن يشير إلى أن صاحب البيعة استوعب شروط الإمامة واجتمعت فيه، ويصفه منها بما يعز وجوده، ويتمدح بحصوله، كالعلم والشجاعة والرأي والكفاية، بخلاف ما لا يعز وجوده ولا يتمدح به وإن كان من الشروط، كالحرية والذكورة والسمع والبصر ونحو ذلك، فإن الوصف بذلك لا وجه له.
ومنها- أنه ينبه على أفضلية صاحب البيعة وتقدمه في الفضل واستيفاء الشروط على غيره، ليخرج من الخلاف في جواز تولية المفضول مع وجود الفاضل.
ومنها- أن ينبه على أن المختارين لصاحب البيعة ممن يعتبر اختياره من أهل الحل والعقد، من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر حضورهم على الوجه المعتبر.
ومنها- أن ينبه على تعيين المختارين للبيعة، إن كان الإمام الأول نص عليهم، إذ لا يصح الاختيار من غير من نص عليه، كما لا يصح إلا تقليد من عهد إليه.
ومنها- أن ينبه على جريان عقد البيعة من المختارين، ضرورة أنه إن انفرد شخص بشروط الإمامة في وقته لم يصر إماماً بمجرد ذلك.
ومنها- أن ينبه على سبب خلع الخليفة الأول إن كانت البيعة مترتبة على خلع، إذ لا يصح خلع الإمام القائم بلا سبب.
ومنها- أن ينبه على قبول صاحب البيعة العقد وإجابته إليه إذ لا بد من قبوله.
ومنها- أن ينبه على أن القبول وقع منه بالاختيار؛ لأنه لا يصح الإجبار على قبولها، اللهم إلا إن كان بحيث لا يصلح للإمامة غيره فإنه يجبر عليها بلا خلاف.
ومنها- أن ينبه على وقوع الشهادة على البيعة، خروجاً من الخلاف في أنه هل يشترط الإشهاد على البيعة أم لا؟ ومنها- أن ينبه على أنها لم تقترن ببيعةٍ في الحال ولا مسبوقة بأخرى، إذ لا يجوز نصب إمامين في وقتٍ واحدٍ وإن تباعد إقليماهما، خلافاً للأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني حيث جوز نصب إمامين في إقليمين.
ومنها- أن ينبه على أنه بمجرد البيعة تجب الطاعة والانقياد إليه، ويجب على كافة الأمة تفويض الأمور العامة إليه، وطاعته فيما وافق حكم الشرع وإن كان جائراً.
ومنها- أن يعزي في الخليفة الميت ويهنئ بالمستقر إن كانت البيعة مبنيةً على موت خليفةٍ، وأن يبين سبب خلع الخليفة الأول إن كانت مرتبةً على خلع.
أما التعزية والتهنئة بموت الأول، فعليه جرى عامة الكتاب، إلا أنه يختص في عرفهم بما إذا كان الخليفة الأول شديد القرب من الثاني، كأبيه وأخيه وابن عمه.
وكان الأولون يتعانون ذلك في خطاب الخلفاء بالتهنئة بالخلافة بعد أقاربهم، وقد روي أن عطاء بن أبي صيفي دخل على يزيد بن معاوية فهنأه بالخلافة وعزاه في أبيه فقال: رزئت بأمير المؤمنين خليفة الله، وأعطيت خلافة الله، قضى معاوية نحبه، فغفر الله ذنبه، ووليت الرياسة، وكنت أحق بالسياسة، فاحتسب عند الله جليل الرزية، وأشكره على جزيل العطية، وعظم الله في معاوية أجرك، وأحسن على الخلافة عونك.
وتعرضت أعرابية للمنصور في طريق مكة بعد وفاة أبي العباس السفاح، فقالت: يا أمير المؤمنين، احتسب الصبر، وقدم الشكر، فقد أجزل الله لك الثواب في الحالين، وأعظم عليك المنة في الحادثين، سلبك خليفة الله، وأفادك خلافة الله، فسلم فيما سلبك، وأشكر فيما منحك، وتجاوز الله عن أمير المؤمنين، وخار لك فيما ملكك من أمر الدنيا والدين.
وأما التعريف بسبب الخلع، فلأنه لا يصح خلع الإمام بغير موجب للخلع.
ومنها- أن يشير إلى ذكر السلطان القائم بالبيعة إن كان القائم بها سلطاناً على ما استقرت عليه قاعدة الكتاب في ذلك.
ومنها- أن ينبه على أن من استخلف في البيعة من وجوه الدولة وأعيان المملكة إن جرى حلفٌ، ويذكر صفة حلفهم وما التزموه من الأيمان المؤكدة، والمواثيق المغلظة.
المقصد الرابع في بيان مواضع الخلافة التي يستدعي الحال كتابة المبايعات فيها:
وهي أربعة أمور: أحدها- موت الخليفة المتقدم عن غير عهدٍ لخليفةٍ بعده، وهو موضوعها الأصلي الذي عليه بنيت.
الثاني- أن يعهد الخليفة إلى خليفةٍ بعده، ثم يموت العاهد ويستقر المعهود إليه بالخلافة بالعهد بعده، فتؤخذ له البيعة العامة على الرعية، إظهاراً لوقوع الإجماع على خلافته، والاتفاق على إمامته.
الثالث- أن تؤخذ البيعة للخليفة بحضرة ولايته، ثم تنفذ الكتب إلى الأعمال لأخذ البيعة على أهلها، فيأخذ كل صاحب عملٍ له البيعة على أهل عمله.
الرابع- أن يعرض للخليفة خللٌ في حال خلافته، من ظهور مخالف أو خروج خارجي، فيحتاج إلى تجديد البيعة له حيث وقع الخلاف.
ولكلٍ من هذه الأحوال ضربٌ من الكتابة يحتاج فيه إلى بيان السبب الموجب لأخذ تلك البيعة.
المقصد الخامس في بيان صورة ما يكتب في بيعات الخلفاء:
وفيها أربعة مذاهب:
المذهب الأول: الافتتاحية بلفظ تبايع أمير المؤمنين:
أن تفتتح المبايعة بلفظ تبايع فلاناً أمير المؤمنين خطاباً لمن تؤخذ عليه البيعة، ويذكر ما يقع عليه عقد المبايعة، ويأتي بما سنح من أمر البيعة، ثم يذكر الحلف عليها، وعلى ذلك جرى مصطلح كتاب خلفاء بني أمية، ثم خلفاء بني العباس بعدهم ببغداد.
واعلم أنه قد تقدم في المقصد الأول من هذا الفصل أنه لم ينقل أنه كتب للصديق رضي الله عنه ولا لمن ولي الخلافة بعده من الصحابة من غير عهدٍ بيعةٌ. ولما كانت خلافة بني أمية، وآل الأمر إلى عبد الملك بن مروان، وأقام الحجاج ابن يوسف على إمارة العراق، وأخذ في أخذ البيعة لعبد الملك بالعراق، رتب إيماناً مغلظةً تشتمل على الحلف بالله تعالى والطلاق والعناق والإيمان المحرجات يحلف بها على البيعة، واشتهرت بين الفقهاء بإيمان البيعة، واطرد أمرها في الدولة العباسية بعد ذلك، وجرى مصطلحهم في ذلك على هذا الأسلوب.
وهذه نسخة مبايعةٍ، ذكرها أبو الحسين بن إسحاق الصابي في كتابه غرر البلاغة وهي: تبايع عبد الله أمير المؤمنين فلاناً بيعة طوع واختيار، وتبرع وإيثار، وإعلانٍ وإسرار، وإظهارٍ وإضمار، وصحة من نغل، وسلامة من غير دغل، وثباتٍ من غير تبديل، ووقار من غير تأويل، واعترافٍ بما فيها من اجتماع الشمل، واتصال الحبل، وانتظام الأمور، وصلاح الجمهور، وحقن الدماء، وسكون الدهماء، وسعادة الخاصة والعامة، وحسن العائدة على أهل الملة والذمة- على أن عبد الله فلاناً أمير المؤمنين عبد الله، الذي اصطفاه، وخليفته الذي جعل طاعته جاريةً بالحق، وموجبةً على الخلق، وموردةً لهم موارد الأمن، وعاقدةً لهم معاقد اليمن، وولايته مؤذنةٌ لهم بجميل الصنع، ومؤديةٌ بهم إلى جزيل النفع، وإمامته الإمامة التي اقترن بها الخير والبركة، والمصلحة العامة المشتركة، وأمل فيها قمع الملحد الجاحد، ورد الجائر الحائد، ووقم العاصي الخالع، وعطف الغازي المنازع- وعلى أنك ولي أوليائه، وعدو أعدائه، من كل داخلٍ في الجملة، وخارجٍ عن الملة، وحائدٍ عن الدعوة. ومتمسكٌ بما يدليه، عن إخلاص من رأيك، وحقيقةٍ من وفائك، لا تنقض ولا تنكث ولا تخلف ولا توراي ولا تخادع، ولا تداجي ولا تخاتل، علانيتك مثل نيتك، وقولك مثل طويتك- وعلى أن لا ترجع عن شيء من حقوق هذه البيعة وشرائطها على مر الأيام وتطأولها، وتغير الأحوال وتنقلها، واختلاف الأزمان وتقلبها- على أنك في كل ذلك من أهل الملة الإسلامية ودعاتها، وأعوان الدولة العباسية ورعاتها؛ لا يداخل قولك مواربةٌ ولا مداهنة، ولا تعترضه مغالطةٌ ولا تتعقبه مخالفة، ولا تخيس به أمانة، ولا تغله خيانة، حتى تلقى الله تعالى مقيماً على أمرك، وفيًا بعهدك، إذ كان مبايعو ولاة الأمور وخلفاء الله تعالى في الأرض {إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّه فَوْقَ أيْدِيهم فَمَنْ نَكثَ فَإنَّما يَنْكُثُ على نَفْسِه ومَنْ أوْفى بما عَاهَدَ علَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتيهِ أَجْراً عَظِيماً}.
عليك بهذه البيعة- التي أعطيت بها صفقة يدك، وأصفيت فيها سريرة قلبك، والتزمت القيام بها ما طال عمرك، وامتد أجلك- عهد الله إن عهد الله كان مسؤولاً، وما أخذه على أنبيائه ورسله وملائكته وحملة عرشه من إيمانٍ مغلظة وعهودٍ مؤكدة، ومواثيق مشددة، على أنك تسمع وتصغي، وتطيع ولا تعصي، وتعتدل ولا تميل، وتستقيم ولا تحيد، وتفي ولا تغدر، وتثبت ولا تتغير، فمتى زلت عن هذه المحجة حاقراً لأمانتك، ورافعاً لديانتك، فجحدت الله تعالى ربوبيته، وأنكرته وحدانيته، وقطعت عصمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وجذذتها، ورميت طاعته وراء ظهرك ونبذتها، ولقيت الله يوم الحشر إليه، والعرض عليه، مخالفاً لأمره، وخائناً لعهده، ومقيماً على الإنكار له، ومصرًا على الإشراك به، وكل ما حلله الله لك محرمٌ عليك، وكل ما تملكه يوم رجوعك عن بذلك، وارتجاعك ما أعطيته في قولك، من مالٍ موجودٍ ومذخور، ومصوغ ومضروب، وسارحٍ ومربوط، وسائم ومعقول، وأرضٍ وضيعة، وعقار وعقده، ومملوكٍ وأمة، صدقةٌ على المساكين، محرمةٌ على مر السنين، وكل امرأةٍ لك تملك شعرها وبشرها، وأخرى تتزوجها بعدها، طالقٌ ثلاثاً بتاتاً، طلاق الحرج والسنة لا رجعة فيه ولا مثنوية، وعليك الحج إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين دفعة حاسراً حافياً، راجلاً ماشياً، نذراً لازماً، ووعداً صادقاً، لا يبرئك منها إلا القضاء لها، والوفاء بها، ولا قبل الله منك توبةً ولا رجعةً، وخذلك يوم الاستنصار بحوله، وأسلمك عند الاعتصام بحبله، وهذه اليمين قولك قلتها قولاً فصيحاً، وسردتها سرداً صحيحاً، وأخلصت فيها سرك إخلاصاً مبيناً، وصدقت فيها عزمك صدقاً يقيناً، والنية فيها نية فلان أمير المؤمنين دون نيتك، والطوية فيها طويته دون طويتك، وأشهدت الله على نفسك بذلك وكفى بالله شهيداً، يوم تجد كل نفس عليها حافظاً ورقيباً.
وهذه نسخة بيعةٍ أخرى من هذا الأسلوب، أوردها ابن حمدون في تذكرته، وربما وافق فيها بعض ألفاظ البيعة السابقة، وهي: تبايع الإمام أمير المؤمنين فلاناً بيعة طوع وإيثار، واعتقادٍ وإضمار، وإعلان وإسرار، وإخلاصٍ من طويتك، وصدقٍ من نيتك، وانشراح صدرك وصحة عزيمتك، طائعاً غير مكره، ومنقاداً غير مجبر، مقراً بفضلها، مذعناً بحقها، معترفاً ببركتها، ومعتداً بحسن عائدتها، وعالماً بما فيها وفي توكيدها من صلاح الكافة، واجتماع الكلمة من الخاصة والعامة، ولم الشعث، وأمن العواقب، وسكون الدهماء، وعز الأولياء، وقمع الأعداء- على أن فلاناً عبد الله وخليفته، المفترض طاعته، والواجب على الأمة إقامته وولايته، اللازم لهم القيام بحقه، والوفاء بعهده، لا تشك فيه، ولا ترتاب به، ولا تداهن في أمره ولا تميل. وأنك ولي وليه، وعدو عدوه، من خاصٍ وعام، وقريبٍ وبعيدٍ، وحاضرٍ وغائب، متمسكٌ في بيعته بوفاء العهد، وذمة العقد، سريرتك مثل علانيتك، وظاهرك فيه وفق باطنك- على أن أعطيت الله هذه البيعة من نفسك، وتوكيدك إياها في عنقك، لفلانٍ أمير المؤمنين عن سلامةٍ من قلبك، واستقامةٍ من عزمك، واستمرارٍ من هواك ورأيك- على أن لا تتأول عليه فيها، ولا تسعى في نقض شيءٍ منها، ولا تقعد عن نصره في الرخاء والشدة، ولا تدع النصر له في كل حالٍ راهنة وحادثة، حتى تلقى الله مؤذناً بها، مؤدياً للأمانة فيها، إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر، وخلفاء الله في الأرض {إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فإنَّما يَنْكُثُ على نَفْسه}.
عليك بهذه البيعة- التي طوقتها عنقك، وبسطت لها يدك، وأعطيت فيها صفقتك، وما شرط عليك فيها، من وفاءٍ وموالاة، ونصح ومشايعة، وطاعةٍ وموافقة واجتهاد ومتابعة- عهد الله إن عهد الله كان مسؤولاً. وما أخذ الله تعالى على أنبيائه ورسله عليهم السلام، وعلى من أخذ من عباده، وكيدات مواثيقه ومحكمات عهوده، وعلى أن تتمسك بها ولا تبدل، وتستقيم ولا تميل، وإن نكثت هذه البيعة أو بدلت شرطاً من شروطها، أو عفيت رسماً من رسومها، أو غيرت حكماً من أحكامها، معلناً أو مسراً أو محتالاً أو متأولاً، أو زغت عن السبيل التي يسلكها من لا يحقر الأمانة، ولا يستحل الغدر والخيانة، ولا يستجيز حل العقود، فكل ما تملكه من عينٍ أو ورق أو آنية، أو عقار أو سائمة، أو زرع، أو صرع، أو غير ذلك من صنوف الأملاك المعتدة، والأموال المدخرة، صدقةٌ على المساكين، محرمٌ عليك أن ترجع من ذلك إلى شيء من مالك بحيلةٍ من الحيل، على وجه من الوجوه، وسببٍ من الأسباب، أو مخرج من مخارج الأيمان، وكل ما تعتده في بقية عمرك من مالٍ يقل خطره أو يجل فتلك سبيله إلى أن تتوفاك منيتك أو يأتيك أجلك، وكل امرأةٍ لك اليوم، وأخرى تتزوجها بعدها مدة بقائك طالقٌ ثلاثاً بتاتاً، طلاق الحرج والسنة لا مثنوية فيه ولا رجعة، وعليك المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة حافياً، حاسراً راجلاً، لا يرضى الله منك إلا بالوفاء بها، ولا يقبل الله منك صرفاً ولا عدلاً، وخذلك يوم تحتاج إليه، وبرأك من حوله وقوته، وألجأك إلى حولك وقوتك، والله عز وجل بذلك شهيداٌ، وكفى به شهيداً.
وهذه نسخة أخرى من هذا الأسلوب، أوردها أبو الحسين الصابي في غرر البلاغة وهي: تبايع أمير المؤمنين بقوةٍ من بصيرتك، وصحة من سريرتك، وصفاءٍ من عقيدتك وصدقٍ من عزيمتك، على الرضا به والوفاء له، والإخلاص في طاعته، والاجتهاد في مناصحته، وعقد النية على موالاته، وبذل القدرة في ممالاته، وأن تكون لأنصاره عوناً، ولأوليائه حزباً، ولأعدائه حرباً، عارفين بما في ذلك من الحظ، ومعترفين بما يلزم فيه من الحق، ومحافظين على ما حرس الملة الإسلامية، والدولة العباسية، ثبت الله قواعدها، وأحكم معاقدها، وزادها استمراراً على مر الدهور، واستقراراً على كر العصور، وعزًا على تنقل الأمور، واشتداداً على تغلب المقدور، فإن خالفت ذلك مسراً أو معلناً، وحلت عنه مظهراً أو مبطناً، وحللت عقوده ناكثاً أو ناقضاً، وتأولت فيه محاولاً للخروج منه، واستثنيت عليه طالباً للرجوع عنه، فبرأني الله من حوله وقوته، وسلبني ما وهب من فضله ونعمته، ومنعني ما وعد من رأفته ورحمته، وخلاني من يديه، يوم الفزع الأكبر لديه، وجنث كل يمين حلفها المسلمون على قديم الأيام وحديثها، والتناهي في تأكيدها وتشديدها، وأعروها من لباس الشبهة، وأخلوها من دواعي المخاتلة، وهذه اليمين يميني، أوردتها على صدق من نيتي، وصحةٍ من عزيمتي، واتفاقٍ من سري وعلانيتي، وسردتها سرداً متتابعاً من غير فصل، وتلفظت بها تلفظاً من غير قطع، والنية فيها نية فلان، على حضور منه وغيب، وبعد وقرب، وأشهد الله تعالى بما عقدته على نفسي منها، وكفى بالله شهيداً على من أشهده، وحسيباً على من اجترأ على إخفار عهده، ونقض عقده.
قلت: فإن كان من تؤخذ عليه المبايعة اثنين، أتي في المبايعة بصيغة التثنية، أو ثلاثة فأكثر، أتي بصيغة الجمع. ولم أقف على كيفية وضعهم لذلك في الكتابة، والذي يظهر أن المبايعة كانت تكتب على الصورة المتقدمة، ثم يكتب المبايعون خطوطهم بصدورها عنهم، كما يفعل الآن في تحليف من يحلف من الأمراء وغيرهم من أرباب الوظائف بالمملكة المصرية والممالك الشامية، أو يشهد عليهم في آخر البيعة بمعاقدتهم عليها ورضاهم بها ونحو ذلك.
المذهب الثاني مما يكتب في بيعات الخلفاء: أن تفتتح المبايعة بلفظ من عبد الله ووليه فلانٍ أبي فلان الإمام الفلاني إلى أهل دولته ونحو ذلك بالسلام عليهم...:
ويؤتى بما سنح من الكلام، ثم يقال: أما بعد، فالحمد لله، ويؤتى على وصفه بشريف المناقب، واستحقاقه للخلافة، واستجماعه لشروطها، وما يجري هذا المجرى، ثم ينخرط في سلك البيعة، ويذكر القائم بأخذها على الناس من سلطانٍ أو وزيرٍ عظيم أو نحو ذلك، ويذكر من أمر ولاية الخليفة ما فيه استجلاب قلوب الرعية والأخذ بخواطرهم وما ينخرط في هذا السلك.
وهذه نسخة بيعةٍ من هذا الأسلوب، لولي عهد بعد موت العاهد، كتب بها لبعض خلفاء الفاطميين، ليس فيها تعرض لذكر الوزير القائم بها، وهي: من عبد الله ووليه أبي فلان فلان بن فلان الإمام الفلاني، بأمر الله تعالى أمير المؤمنين، إلى من يضمه نطاق الدولة العلوية، من أمرائها وأعيانها، وكبرائها وأوليائها، على اتساع شعوبهم، وعساكرها على اختلاف ضروبهم، وقبائل عربها القيسية واليمنية، وكافة من تشمله أقطارها من أجناء الرعية، الأمير منهم والمأمور، والمشهور منهم والمغمور، والأسود والأحمر، والأصغر والأكبر، وفقهم الله وبارك فيهم.
سلامٌ عليكم، فإن أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمدٍ خاتم النبيين، وسيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديين، وسلم تسليماً.
أما بعد، فالحمد لله مولي المن الجسيم، ومبدي الطول العميم، ومانح جزيل الأجر بالصبر العظيم، مفيد النعم المتشعبة الفنون، ومدني المهج المتعالية لتنأول المنون، ومبيد الأعمار ومفنيها، وناشر الأموات ومحييها، والفاتح إذا استغلقت الأبواب، والقائل: {لكُلِّ أجَلٍ كِتَاب} الذي لا يغير ملكه مرور الغير، ولا يصرف سلطانه تصرف القدر، ولا يدرك قدمه وأزليته، ولا ينفد بقاؤه وسرمديته، مسلم الأنام للحمام، ومصمي الأنفس بسهام الاخترام، ومورد البشر من المنية منهلاً ما برحوا في رنقه يكرعون، ولمره المشرق يتجرعون، ومعزز ذلك بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائقَةُ الموتِ ونَبْلُوكُمْ بالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنةً وإلَيْنا تُرْجَعُونَ.
والحمد لله الذي نصب الأنبياء لمراشده أعلاماً، وحفظ ببعثهم من الحق والهدى نظاماً، وجعل نبوة جدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لنبواتهم ختاماً، وعضد بوصيه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كمالاً للدين وإتماماً، واستخلص من ذريتهما أئمةً هادين إتقاناً لصنعته وإحكاماً، وأقام الحجة على الأمم بأن أقام لكل زمانٍ منهم إماماً، وعاقب بين أنوار الإمامة فإذا انقبض نورٌ انبسط نور، وتابع ظهور بدوره ليشرق طالعٌ إثر غاربٍ يغور، رحمةً شاملةً للعالمين، وحكمةً تامةً حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ولم يخل نبياً مع ما شرفه به من تنأول وحيه وتلقيه، ولا عصم إماماً مع اختصاصه بفروع منصب الإمامة وترقيه، من لقاء المنية، ووداع الأمنية، بل أجل لكلٍ منهم أجلاً مكتوباً، وفسح له أمداً محصوراً محسوباً، لا يصرفه عن وصول فضيلة، ولا يصل إلى تجاوزه بقوةٍ ولا حيلة، قدرةٌ محكمة الأسباب، وعبرةٌ واضحةٌ لأولي الألباب، وقضيةٌ أوضحها فرقانه الذي أقر بإعجازه الجاحدون، إذ يقول مخاطباً لنبيه: وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ.
والحمد لله الذي منح أمير المؤمنين من خصائص الإمامة وأنوارها، وحاز له من ذخائرها وأودعه من أسرارها، ما خوله فاخر تراثها، وأصار له شرف ميراثها، وجعله القائم بحقه، والمرشد لخلقه، والماحي بهداه ليلاً من الضلال بهيماً، والحاوي بخلافته مجداً لا يزال ثناؤه عظيماً: ذلك الفضْلُ مِنَ اللهِ وكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً.
يحمده أمير المؤمنين على أن أوضح بآبائه الأئمة سبل الحقائق، فأصبحوا خلفاء الخالق وأئمة الخلائق، وخوله ما اختصهم به من الإمامة، ورفعه بها إلى أشمخ منازل العلا وأرفع مواطن الكرامة، ويستمده شكراً يوازي النعم التي أثبتت له على سرير الخلافة وسرها قدماً، وصبراً يوازن الفجيعة التي قل لها فيض المدامع دماً.
ويسأله أن يصلي على جده محمدٍ الذي فض بجهاده جموع الإلحاد، وحصد باجتهاده من مال عن الهدى وحاد، وصدع بما أمر به حتى عم التوحيد، ودانت لمعجزاته الأمم وقد دعاها وهو المفرد الوحيد، ولم يزل مبالغاً في مرضاة ربه، حريصاً على إظهار دينه بيده ولسانه وقلبه، حتى استأثر به وقبضه، وبدله من الدنيا شرف جواره وعوضه، وأصاره إليه أفضل نبي بصر وبشر، وأحيا دين الله وأنشر، وعلى أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إمام الأمة، وأبي الأئمة، وقدوة السعداء، وسيد الشهداء، وعاضد الدين بذي الفقار، ومن لم يزل الحق إلى ذبه شديد الافتقار، صلى الله عليه وعلى آبائه والأئمة من ذريتهما الذين أيقظوا العقول بإرشادهم من السنة، وأفاضوا من العدل والإحسان ما ألهج بتمجيدهم الألسنة.
وإن الإمام الفلاني لدين الله أمير المؤمنين كان ولياً لله شرفه الله واستخلصه، وأفرده بإمامة عصره وخصصه، وفوض إليه أمر خلافته، وأحله محلاً تقع مطارح الهمم دون علوه وإنافته، فقام بحق الله ونهض، وعمل بأمره فيما سن وفرض، وقهر الأعداء بسطواته وعزائمه، وصرف الأمور بأزمة التدبير وخزائمه، وبالغ في الذب عن أشياع الملة، واجتهد في جهاد أعداء القبلة، ووقف على مصلحة العباد والبلاد أمله، ووفر على ما يحظي عند الله قوله وعمله، ولم يترك في مرضاة خالقه مشقة إلا احتملها، ولا رويةً إلا صرفها في إرشاد خلقه وأعملها، حتى بلغ الغاية المحدودة، واستكمل الأنفاس المعدودة، وأحسن الله له الاختيار، وآثر له النقلة من هذه الدار والزلفى بسكنى دار القرار، والفوز بمصاحبة الأنبياء الأبرار، والحلول في حظائر قدسه مع آبائه الأئمة الأطهار، فسار إليه طاهر السريرة، جميل المذهب والصورة، مستوجباً بسعيه أفضل رضوانه، ممهداً بالتقوى لتدبيره أكناف جنانه.
وأمير المؤمنين يحتسب عند الله هذه الرزية التي عظم بها المصاب، وعظم عند تجرعها الصاب، وأضرمت القلوب ناراً، وأجرت الآماق دماً مماراً، وأطاشت بهولها الأكباد بالحرق، وكحلت الأجفان بالأرق، وكادت لهجومها الصدور تقذف أفئدتها، والدنيا تنزع نضرتها وبهجتها، وقواعد الملة تضعف وتهي، والخطوب الكارثة تصر ولا تنتهي، فإنا لله وإنا إليه راجعون؟!! تسليماً لأمره الذي لا يدفع، وإذعاناً لقضائه الذي لا يصد ولا يمنع.
وكان الإمام الفلاني لدين الله أمير المؤمنين عند نقلته جعل لي عقد الخلافة، ونص علي بارتقاء منصبها المخصوص بالإنافة، وأفضى إلي بسرها المكنون، وأودعني غامض علمها المصون، وعهد إلي أن أشملكم بالعدل والإحسان، والعطف والحنان، والرحمة والغفران، والمن الرائق الذي لا يكدره امتنان، وأن أكون لأعلام الهدى ناشراً، وبما أرضى الله مجاهراً، ولأحزاب القبلة مظافراً مظاهراً، ولأعداء الملة مرغماً قاهراً، ولمنار التوحيد رافعاً، وعن حوزة الإسلام بغاية الإمكان دافعاً، مع علمه بما خصصت به من كرم الشيم، وفطرت عليه من الخلال القاضية مصالح الأمم، وأوتيته من استحقاق الإمامة واستيجابها، ومنحته من الخصائص المبرمة لأسبابها.
فتعزوا جميع الأولياء، وكافة الأمراء، وجميع الأجناد، والحاضر من الرعايا والباد، عن إمامكم المنقول إلى دار الكرامة، بإمامكم الحاضر الموجود الذي أورثه الله مقامه، وادخلوا في بيعته بصدورٍ مشروحةٍ نقية، وقلوبٍ على محض الطاعة مطوية، ونيات في الولاء والمشايعة مرضية، وبصائر لا تزال بنور الهدى والاستبصار مضية، وأمير المؤمنين يسأل الله أن يجعل إمامته محظوظةً بالإقبال، دائمة الكمال، صافيةً من الأكدار، معضودةً بمواتاة الأقدار، ويوالي حمده على ما منحه من الاصطفاء الذي جعله لأمور الدين والدنيا قواماً، وأقامه للبرية سيداً وإماماً، فاعلموا هذا وأعملوا به، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكتب في يوم كذا من شهر كذا سنة كذا.
وهذه نسخة بيعة، كتب بها عن الحافظ لدين الله الفاطمي بعد وفاة ابن عمه الآمر بأحكام الله، قام بعقدها الوزير أبو الفتح يانس الحافظي، اقتصر فيها على تحميدةٍ واحدةٍ، وعزى بالخليفة الميت، ثم انتقل إلى مقصود البيعة، وهي: من عبد الله ووليه عبد المجيد أبي الميمون، الحافظ لدين الله أمير المؤمنين، إلى كافة أهل الدولة شريفهم ومشروفهم، وأميرهم ومأمورهم، وكبيرهم وصغيرهم، وأحمرهم وأسودهم، وفقهم الله وبارك فيهم.
سلامٌ عليكم، فإن أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على جده محمدٍ خاتم النبيين وسيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فالحمد لله اللطيف بعباده وبريته، الرؤوف في أقداره وأقضيته، المهيمن فلا يخرج شيء من إرادته ومشيئته، ذي النعم الفائضة الغامرة، والمنن المتتابعة المتظاهرة، والآلاء المتوالية المتناصرة، القائل في محكم كتابه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحياةِ الدُّنْيا وفي الآخرة} مدبر أرضه بخلفائه، الذين هم زينةٌ للدنيا وبهجة، وهادي خلقه بأوليائه، لئلا يكون للناس على الله حجة، فسبحان الذي هو للنعم مسبغ وبالكرم جدير، وتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير.
يحمده أمير المؤمنين أن جعله خليفةً دون أهل زمانه، وأوجب ثواب المستجيبين له بكفالته وضمانه، وجعلهم يوم الفزع الأكبر مكنوفين بحفظه مشمولين بأمانه، وأوزعه الشكر على ما استرعاه إياه من أمر هذه الأمة، ونقله إليه من تراث آبائه الهداة الأئمة، وكشفه بإمامته من أفجع نائبةٍ وأفظع ملمة.
وصلى الله على جدنا محمدٍ رسوله الذي أخر الأنبياء المرسلون بصفته ونعته، وتداولوا البشرة بما يستقبل من زمانه وبعثه، وذكروه فيما أتوا به من كل كتاب أوحاه الله وأنزله، واعترفوا بأنه أفضل من كل من نبأه الله وأرسله، فيسر الله سبحانه ما كان مرتقباً من ظهوره، وأذن في إشراق الأرض بما انتشر في آفاقها من نوره، وبعثه- جلت قدرته- إلى الأمة بأسرها قاطبة، وجعل ألسنة الأغماد مجادلةً لمن خالف شرعه مخاطبة، فكان لآية الكفر ماحيا، وفي مصالح البرية ساعيا، وإلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة داعيا، إلى أن لمعت آيات الحق وسطعت، وانحسمت مادة الباطل وانقطعت، وظهر من آياته ما كبر له المخبتون، واشتهر من معجزاته ما خصم به المتعنتون، وخاطبه الله فيما أنزل عليه بقوله: إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ ميِّتُون. فحينئذ نقله الله إلى ما أعد له من جناته، وخصه بشرف الشفاعة في يوم مجازاته، وصدقه وعده فيما بوأه من النعيم المقيم: ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتيه مَنْ يشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْل العَظِيم.
وعلى أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أولى الناس بالنبي، وأول من اتبعه من ذوي قرابةٍ وأجنبي، وابن عمه الذي اختصه بمؤاخاته، وجعله خليفةً على كافة الناس بعد وفاته، وتحمل بأمر الله، فيما ولاه وأولاه، وخطب الناس في حجة الوداع فقال: من كُنْتُ مَوْلاه فَعَلِيٌّ مَوْلاه، وعلى آلهما الكرام الأبرار، وعترتهما المصطفين الأخيار، وهداة المسلمين وقدوتهم، وأمراء المؤمنين وأئمتهم، الذين حكموا فأقسطوا وما قسطوا، وسلك الحاضرون منهم سنن أسلافهم الذين فرطوا، واقتفوا آثارهم في السياسة فما قصروا ولا فرطوا، ولم يزل كلٌ منهم عاملاً من ذلك بما حسن أيامه، فاعلاً في أمر الدين ما رفع مناره ونشر أعلامه، حتى اختار الله له ما عنده فنص على من أقامه الاستحقاق مقامه، وسلم عليهم أجمعين سلاماً لا انقضاء لأمده، ولا انقطاع لمدده، فنيل المطالب بكرمه وملكوت كل شيءٍ بيده.
وإن الحق إن خفي حيناً فلا بد لهلاله من الإبدار وانبساط النور، وإن الشمس إن توارت بالحجاب فما أوشك عودتها إلى البزوغ والظهور، وإن حسن الصبر إلى أن يبلغ الكتاب أجله يؤمن من تدلية الشيطان بالغرور، قال الله عز وجل في كتابه الذي هدانا به: وإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا فإنَّ ذلِكَ مِن عَزْمِ الأُمُور.
وإن الله تعالى لرأفته بمن أبدعه من خلقه وأنشاه، ولسابق علمه في عمارة هذه الدار على ما أراده عز وجل وشاه، لا يخلي الأرض من نورٍ يستضيء به الساري في الليل البهيم، ولا يدع الأمة بلا إمام يهدي إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيم، فهو جل وعلا أعدل من أن يجعل جيد الإيمان من حلى الإمامة عاطلاً، أو يترك الخلق هملاً وقد قال: {وَمَا خَلَقْنا السماء والأرضَ وما بَيْنَهما باطِلاً} بل يقطع أعذار العباد فيما خلقهم له ووقفهم، ويهديهم بالأئمة إلى التوفر على عمل ما ألزمهم وكلفهم، فالأمور محروسة الترتيب محفوظة النظام، والأرض إذا أظلمت لفقد إمامٍ، أضاءت وأشرقت لقيام إمام. وقد علم الكافة أن حجة الله في أرضه، والمجتنب من الأعمال ما لم يرضه، والمحسن إلى البرية ببعثه على المصالح وحضه، الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين الذي آتاه الله الحكم صبياً، ورفعه من إرث النبوة مكاناً علياً، واستخلفه على خلقه فكان للفضل باسطاً ولراية العدل ناشراً، وجعله لشمس المحاسن جامعاً ولأئمة الخلفاء الراشدين عاشراً، لم يزل ناظراً في البعيد والقريب، عاملاً في سياسة الأمة عمل المجتهد المصيب، مستقصياً حرصه في المحافظة على إعزاز الملة، مستنفداً جهده في الجهاد فيمن خالف أهل القبلة، باذلاً من جزيل العطاء وكثيره ما لا يعرف معه أحدٌ من خاصته بالفقر ولا ينسب معه إلى القلة، حتى استوفى مدته الموهوبة، واستوعب غايته المكتوبة، وناله من القضاء ما أخرجه من الدنيا سعيداً، وأقدمه على الله شهيداً، وأصاره إلى جوار ربه تبارك وتعالى، كانتقال أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بغياً من الكافرين واغتيالاً. وقد كان يذكر ما يعلمه من حق أمير المؤمنين تارةً مجاهراً وتارة مخافتاً، إلى أن صار على بسط القول في ذلك وتبيينه مثابراً متهافتاً، وأفصح بما كان مستبهماً مستعجماً، وصرح بما لم يزل في كشفه ممرضاً وعن إفصاحه محجماً، وذلك لما ألفاه أشرف فرع من سنخ النبوة، ورآه أكرم في فخارة الأبوة، وعلمه أبيه الأمير أبي القاسم عمه سلام الله عليه الذي هو سليل الإمامة القليل المثل، ونجل الخلافة المخصوص من الفخر بأجزل حظٍ وأوفر كفل، كان المستنصر بالله أمير المؤمنين سماه ولي عهد المسلمين، وتضمن ذلك ما خرجت به توقيعاته وتسويغاته إلى الدواوين، وثبت في طرز الأبنية، وكتب الابتياعات والأشرية، وعلمته الكافة علماً يقيناً ظلت فيه غير مرتابةٍ ولا ممترية، وفي ضمن ذلك باطنٌ لا يعقله إلا العالمون، ولا ينكره إلا من قال فيهم: وَمَا يَجْحَدُ بآياتِنَا إلاَّ الظَّالِمُون. وذلك أن أمير المؤمنين الغرض والمقصد، والبغية والمطلب، وله عهد بالتلويح والإشارة، وإليه أوحى بالنص وإن لم يفصح فيه بالعبارة، وكان والده الأمير أبو القاسم- قدس الله روحه- بمنزلة الأشجار التي يتأنى بها إلى أن يظهر زهرها، والأكمام التي ينتظر بها إلى أن يخرج ثمرها، والزرجونة التي نقلت الماء إلى العنقود، والسحابة التي حملت الغيث فعم نفعه أهل السهول والنجود، ومما يبين ذلك ويوضحه، ويحققه ويصححه، وتثلج به للمؤمنين صدور وتقوى أفئدة، وتشهد البصائر أن النعمة به على الإسلام متتابعةٌ متجددة، أن المرين إذا تشابها من كل الجهات، وكانت بينهما مدد متطأولاتٌ متباعدات، فالسابق منهما يمهد للتالي، والأول أبداً رمزٌ على الثاني، ولا خلاف بين كافة المسلمين في أن الله تعالى أمر جدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بعقد ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه فعقدها له يوم غدير خم، وأمير المؤمنين علي ابن عمه وكان له حينئذ عمٌ حاضر، وأمضى ما أمر به والإسلام يومئذٍ غضٌ وعوده ناضر، وكذلك أن أمير المؤمنين، هو ابن عم الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين، وقد نص مع حضور عمومته عليه، وفعل ما فعل نده رسول الله اقتداءً به وانتهاءً إليه، وكان أبو علي المنصور الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه، جعل ابنه عبد الرحيم إلياس ولي عهد المسلمين، وميزه بذلك على كافة الناس أجمعين، ونقش اسمه في السكة، وأمر بالدعاء له على المنابر وبمكة، وألبسه شدة الوقار المرصعة بالجوهر، واستنابه عنه إمام الأعياد في الصلاة وفي رقي المنبر، وأقامه مقام نفسه في الاستغفار لمن يتوفى من خواص أوليائه، وفي الشفاعة لهم بمتقبل مناجاته ومسموع دعائه، مع علمه أنه لا ينال رتبة الخلافة، ولا يبلغ درجة الإمامة، وأن الإمام الظاهر لإعزاز دين الله- صلى الله عليه- هو الذي خلق لها، وحين حمل أعباءها أقلها وما استثقلها، وإنما تحت ذلك معنًى لطيفٌ غامض، وسرٌ عن جمهور الناس مستترٌ وبرقه لأولي البصائر وامض، وهو أن مكنون الحكمة، ومكتوم علم الأمة، يدلان على أن الإمام المنصور أبا علي، سيفعل فيمن يستخلفه بعده مثل فعل النبي، وقد علم الإمام الحاكم- عليه السلام- أن المراد بذلك من يأتي بعده ممن أولده أو أنسله، لأن ولده حاضرٌ والمقصود من لا ولد له، فجعل ولاية عبد الرحيم العهد تأسيساً لما سيكون، ونقلاً للنفوس من الانزعاج إلى أن تشملها الطمأنينة والسكون. فلما أفضى الله إلى الإمام المنصور أبي علي الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين بالخلافة التي جعلها واجباً له حقاً، ووافق جده- عليه السلام- وكان لقبه من لقبه مشتقاً، ظهر المنكتم، ووضح المستتر، وعاد التعريض تصريحاً، والتمريض تصحيحاً، والرمز إبانة، والنص على أمير المؤمنين أمانة، فاقتدى بجده رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف أمير المؤمنين مع حضور عمومته، وفعل في ذلك فعلته وجرى على قضيته، وكشف عما أبهمه الإمام الحاكم بأمر الله قدس الله لطيفته فتساوى الخاص والعام في معرفته، ثم حله أمير المؤمنين محل نفسه في الجلوس على الأسمطة، وعمل لأوليائه ورعيته في ذلك بالقضايا المحيطة، ونصبه منصبه في الصلاة على من جرت عادته بالصلاة على مثله، وجمع في اعتماد ذلك بين إحسانه وفضله وبين امتنانه وعدله، وإذ قد تبين هذا الأمر الواضح الجلي، وتساوى في علمه الشانئ والولي، وعلم هو ما خص الله به أمير المؤمنين من الإمامة، وأزاله عن العقول من ضبابٍ متكاثفٍ وغمامة، وشمله به من فضله ورافته، ونصبه فيه من منصب خلافته التي أيدها بوليه ووزيره، وعضدها بصفيه وظهيره، السيد الأجل أبي الفتح يانس الحافظي الذي جعله الله على اعتنائه بدولة أمير المؤمنين من أوضح الشواهد والدلائل، وصرف به عن مملكته محذور الصروف والغوائل، وأقام منه لمناصحة الخلافة مخلصاً جمع فيه أسباب المناقب والفضائل، وأيده بالتوفيق في قوله وفعله فأربى على الأواخر والأوائل، ودلت سيرته الفاضلة على أنه قد عمر ما بين الله وبينه، وحكمت سنته العادلة أن كل مدح لا يبلغ ثناءه وكل وصف لا يقع إلا دونه، والله يضاعف نعمه عنده ولديه، ويفتح لأمير المؤمنين مشارق الأرض ومغاربها على يديه، وهذا يحقق أن الإسلام قد أحدث له قوةً وتمكيناً، وأن ذوي الإيمان قد ازدادوا إيماناً واستبصاراً ويقيناً، فيجب عليكم لأمير المؤمنين أن تدخلوا في بيعته منشرحةً صدوركم، طيبة نفوسكم، مجتهدين له في خدمة تقابلون بها إحسانه، متقربين إليه بمناصحة تحظيكم عند الله سبحانه، عاملين بشرائط البيعة المأخوذة على أمثالكم الذين يتبعون في فعلهم، ويقع الإجماع بمثلهم، ولكم على أمير المؤمنين أن يكون بكم رحيماً، وعن الصغائر متجاوزاً كريماً، وبالكافة رؤوفاً رفيقاً، وعلى الرعايا عطوفاً شفيقاً، وأن يصفح عن المسيء ما لم يأت كبيرة، ويبالغ في الإحسان إلى من أحسن السيرة، ويولي من الإفضال ما يستخلص الضمائر، ويسبغ من الإنعام ما يقتضي نقاء السرائر، وأمير المؤمنين يسأل الله أن يعرفكم بركة إمامته، ويمن خلافته، وأن يجعلها ضامنةً بلوغ المطالب، كافلةً لكافتكم بسعادة المبادئ والعواقب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. مناجاته ومسموع دعائه، مع علمه أنه لا ينال رتبة الخلافة، ولا يبلغ درجة الإمامة، وأن الإمام الظاهر لإعزاز دين الله- صلى الله عليه- هو الذي خلق لها، وحين حمل أعباءها أقلها وما استثقلها، وإنما تحت ذلك معنًى لطيفٌ غامض، وسرٌ عن جمهور الناس مستترٌ وبرقه لأولي البصائر وامض، وهو أن مكنون الحكمة، ومكتوم علم الأمة، يدلان على أن الإمام المنصور أبا علي، سيفعل فيمن يستخلفه بعده مثل فعل النبي، وقد علم الإمام الحاكم- عليه السلام- أن المراد بذلك من يأتي بعده ممن أولده أو أنسله، لأن ولده حاضرٌ والمقصود من لا ولد له، فجعل ولاية عبد الرحيم العهد تأسيساً لما سيكون، ونقلاً للنفوس من الانزعاج إلى أن تشملها الطمأنينة والسكون. فلما أفضى الله إلى الإمام المنصور أبي علي الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين بالخلافة التي جعلها واجباً له حقاً، ووافق جده- عليه السلام- وكان لقبه من لقبه مشتقاً، ظهر المنكتم، ووضح المستتر، وعاد التعريض تصريحاً، والتمريض تصحيحاً، والرمز إبانة، والنص على أمير المؤمنين أمانة، فاقتدى بجده رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف أمير المؤمنين مع حضور عمومته، وفعل في ذلك فعلته وجرى على قضيته، وكشف عما أبهمه الإمام الحاكم بأمر الله قدس الله لطيفته فتساوى الخاص والعام في معرفته، ثم حله أمير المؤمنين محل نفسه في الجلوس على الأسمطة، وعمل لأوليائه ورعيته في ذلك بالقضايا المحيطة، ونصبه منصبه في الصلاة على من جرت عادته بالصلاة على مثله، وجمع في اعتماد ذلك بين إحسانه وفضله وبين امتنانه وعدله، وإذ قد تبين هذا الأمر الواضح الجلي، وتساوى في علمه الشانئ والولي، وعلم هو ما خص الله به أمير المؤمنين من الإمامة، وأزاله عن العقول من ضبابٍ متكاثفٍ وغمامة، وشمله به من فضله ورافته، ونصبه فيه من منصب خلافته التي أيدها بوليه ووزيره، وعضدها بصفيه وظهيره، السيد الأجل أبي الفتح يانس الحافظي الذي جعله الله على اعتنائه بدولة أمير المؤمنين من أوضح الشواهد والدلائل، وصرف به عن مملكته محذور الصروف والغوائل، وأقام منه لمناصحة الخلافة مخلصاً جمع فيه أسباب المناقب والفضائل، وأيده بالتوفيق في قوله وفعله فأربى على الأواخر والأوائل، ودلت سيرته الفاضلة على أنه قد عمر ما بين الله وبينه، وحكمت سنته العادلة أن كل مدح لا يبلغ ثناءه وكل وصف لا يقع إلا دونه، والله يضاعف نعمه عنده ولديه، ويفتح لأمير المؤمنين مشارق الأرض ومغاربها على يديه، وهذا يحقق أن الإسلام قد أحدث له قوةً وتمكيناً، وأن ذوي الإيمان قد ازدادوا إيماناً واستبصاراً ويقيناً، فيجب عليكم لأمير المؤمنين أن تدخلوا في بيعته منشرحةً صدوركم، طيبة نفوسكم، مجتهدين له في خدمة تقابلون بها إحسانه، متقربين إليه بمناصحة تحظيكم عند الله سبحانه، عاملين بشرائط البيعة المأخوذة على أمثالكم الذين يتبعون في فعلهم، ويقع الإجماع بمثلهم، ولكم على أمير المؤمنين أن يكون بكم رحيماً، وعن الصغائر متجاوزاً كريماً، وبالكافة رؤوفاً رفيقاً، وعلى الرعايا عطوفاً شفيقاً، وأن يصفح عن المسيء ما لم يأت كبيرة، ويبالغ في الإحسان إلى من أحسن السيرة، ويولي من الإفضال ما يستخلص الضمائر، ويسبغ من الإنعام ما يقتضي نقاء السرائر، وأمير المؤمنين يسأل الله أن يعرفكم بركة إمامته، ويمن خلافته، وأن يجعلها ضامنةً بلوغ المطالب، كافلةً لكافتكم بسعادة المبادئ والعواقب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذهب الثالث: أن تفتتح البيعة بعد البسملة بخطبة مفتتحة بالحمد لله ثم يؤتى بالبعدية ويتخلص إلى المقصود:
وقد يذكر السلطان القائم بها وقد لا يذكر، وعلى ذلك كانت تكتب بيعات خلفاء بني أمية بالأندلس، ومن ادعى الخلافة ببلاد المغرب.
وهذه نسخة بيعةٍ كتب بها طاهرٌ الأندلسي، في أخذ البيعة على أهل دانية من الأندلس، للرشيد بن المأمون الأموي، وهو منتصبٌ في الخلافة؛ لخلف توهمه من الرعية، اقتصر فيها على تحميدةٍ واحدة، وليس فيها تعرض لسلطانٍ قائم بعقدها، وهي: الحمد لله الذي أسبغ إنعامه باطناً وظاهراً، وسوغ إفضاله هاملاً وهامراً، وأعجز عن وصف إحسانه ناظماً وناثراً، وقهر الخلق ناهياً وآمراً، وتعالى جده فلا ترى له مضاهياً ولا مظاهراً، ولا موازياً ولا موازراً، ونصر الحق وكفى به ولياً وكفى به ناصراً، وجعل جد المطيع صاعداً وجد العصي عاثراً، وحذر من الخلاف بادياً وحاضراً، وماضياً وغابراً.
نحمده سبحانه على نعمه حمد من أصبح لعلق الحمد ذاخراً، ونشكره على مننه ولن يعدم المزيد منه شاكراً، ونضرع إليه أن يجعل حظنا من بركة الاعتصام وافراً، ووجه نيتنا في الانتظام سافراً، وأن يمنح أولياءه النصر ظاهراً والفتح باهراً، وأعداءه الرعب شاجياً والرمح شاجراً، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة من أقر له بالوحدانية صاغراً، وأضحى لأوامره ممتثلاً ولنواهيه محاذراً، ونسأله أن يجعل حزب الإيمان ظافراً، ويمده بنصره طالباً للثار ثائراً، وصلى الله على سيدنا محمدٍ رسوله الذي انتخبه من صفوة الصفوة كابراً فكابراً، وجعله بالفضيلة أولاً وبالرسالة آخراً، فأيقظ بالدعاية ساهياً وناسياً وسكن بعد الإبانة منافياً ومنافراً، وأذهب بنوره ليلاً من الجهالة ساتراً، وقام بجهاد الكفرة ليثاً خادراً، وباشر بنفسه المكاره دارعاً وحاسراً، وشهد بدراً مبادراً، وحنيناً منذراً بالخبر ناذراً، وظهر عليهم في كل المشاهد غالباً وما ظهروا نادراً، وعلى آله وأصحابه الذين منهم صاحبه وخليفته، المعلومة رأفته، أبو بكر الذي اقتحم لهول الردة مصابراً، وسل في قتال الروم أهل الجلد والشدة سيفاً باتراً، ومنهم القوي في ذات الله عمر الذي أصبح به ربع الإسلام عامراً، ولم يخش في الله عاذلاً ولم يرج غادراً، ومنهم الأصدق حياءً عثمان ملاقي البلوى صابراً، والخفر الذي لم ير للأذمة خافراً، ومنهم أقضاهم علي الذي قاتل باغياً وكافراً، وبات لخوف الله ساهراً، ورضي الله عن الإمام المهدي الذي أطلعه نوراً باهراً، وبحراً للعلم زاخراً، وأتى به والضلال يجر رسنه سادراً، والباطل يثبت وينفي وارداً وصادراً، فجدد رسم الحق وكان داثراً، وقام بآرائه علماً هادياً وقرماً هادراً، وعن الخلفاء الراشدين المرشدين من أصبح حائداً عن الحق جائراً، المجاهدين خاتلاً بالعهد خاتراً.
أما بعد، فإن الله سبحانه جعل الإمامة للناس عصمة، ومنجاةً من ريب الالتباس ونعمة، بها تتمهد عمارة الأرض، ويتجدد صلاح الكل والبعض، ولولاها ظهر الخلل، واختلط المرعي والهمل، وارتكبت المآثم، واستبيحت المحارم، واستحلت المظالم، وانتقم من المظلوم الظالم، وفسد الائتلاف وافترق النظام، وتساوى الحلال والحرام، فاختار لأمرهم رعاةً أمرهم بالعدل فعدلوا، وبالتواصل في ذات الله والتقاطع فقطعوا في ذات الله ووصلوا، وعدلوا بين أهليهم وأقربيهم فيما ولوا، ونهضوا بأعباء الكفاية والحماية واستقلوا، وألزمهم الاتفاق والانقياد، وحظر عليهم الانشقاق والعناد، فملكوا بأزمة العقل قياد الأمور، وأشرقت بسيرتهم المباركة أقاصي المعمور، وشاهد الناس فواضل إمامهم، وتبينوا من سيرتهم العادلة علو محلهم في الخلائف ومقامهم، ولم يطرق في مدتهم للإسلام جناب، ولا اقتحم له باب، وأنى وسيوفهم تقطر من دماء الأعداء، وبلادهم ساكنة الدهماء، والكفرة بالرعب المخامر والداء العياء، وأهل الإيمان، يرجون ذيول العزائم، وعبدة الصلبان، يعثرون في ذيل الهوان الدائم، إلى أن عدمت الأرض منهم بحارها الزواخر، وأنوارها البواهر، ورأت بعدهم العيون الفواقيء والمتون الفواقر، واكفهر وجه اللأواء، وتفرقت الفرق بحسب الأهواء، وسفكت الدماء وركبت المضلة العمياء، واحتقبت الجوائر، وأهمل الشرع والشعائر، ثم إن الله تعالى أذن في كشف الكرب، وأطلع بالغرب نوراً ملأ الدلو إلى عقد الكرب، وهو النور الذي أضاء للبصائر والأبصار، وطلع على الآفاق طلوع النهار، وذخرت أيامه السعيدة لدرك الثار، وكلفت به الخلافة وطال بها كلفه، وقام بالإمامة مثل ما قام بها الخلفاء الراشدون سلفه، وذلك هو الخليفة الإمام أمير المؤمنين الرشيد بالله ابن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، وخلد في عقبهم الإمامة إلى يوم الدين، وهو الأسد الهصور، ومن أبوه المأمون وجده المنصور، العريق في الخلافة، والحقيق بالإمامة والإنافة، فجمع ما افترق، ونظم الأمور ونسق، ومنع الحوزة أن تطرق والملة أن تفترق أو تفرق.
وهذه نسخة بيعةٍ كتب بها أبو المطرف بن عميرة الأندلسي بأخذ البيعة على أهل شاطبة من الأندلس لأبي جعفر المستنصر بالله العباسي، قام بعقدها أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هودٍ صاحب الأندلس، ثم أخذ البيعة بعد ذلك عليهم لنفسه، وأن يكون ابنه ولي عهده بعده، وهي: الحمد لله الذي جعل الأرض قراراً، وأرسل السماء مدراراً، وسخر ليلاً ونهاراً، وقدر آجالاً وأعماراً، وخلق الخلق أطواراً، وجعل لهم إرادةً واختياراً، وأوجد لهم تفكراً واعتباراً، وتعاهدهم برحمته صغاراً وكباراً.
نحمده حمد من يرجو له وقاراً، ونبرأ ممن عانده استكباراً وألحد في آياته سفاهةً واغتراراً، وصلى الله على سيدنا محمد الشريف نجاراً، السامي فخاراً، فرفع الله من شريعته للأمة مناراً، وأطفأ برسالته للشرك ناراً، حتى علا الإسلام مقداراً، وعز جاراً وداراً، وأذعن الكفر اضطراراً، واستسلم ذلة وصغاراً، فمضى وقد ملأ البسيطة أنواراً، وعمها بدعوته أنجاداً وأغواراً، وأوجب لولاة العهد بعده طاعةً وأتماراً، فجزاه الله أفضل ما جزى نبياً مختاراً، ورسولاً اجتباه اختصاصاً وإيثاراً، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين آثاراً واختباراً، وعلى أصحابه الكرام مهاجرين وأنصاراً، صلاةً نواليها إعلاناً وإسراراً، ونرجو بها مغفرة ربنا إنه كان غفاراً.
أما بعد، فإن المستأثر بالدوام، اللطيف بالأنام، أنشأهم على التغاير والتباين، واضطرهم إلى التجاور والتعاون، وجعل لهم مصلحة الاشتراك، ومنفعة الالتحام والاشتباك، طريقاً إلى الأفضل في حياتهم، والأسعد لغاياتهم، وبعث النبيين مرغبين ومحذرين، ومبشرين ومنذرين، فأدوا عنه ما حمل، وبينوا ما حرم وحلل، وكان أعمهم دعوة، وأوثقهم عروة، وأعلاهم في المنزلة عند ذروة، وأعطفهم للقلوب وهي كالحجارة أو أشد قسوة، المخصوص بالمقام المحمود، والحوض المورود، وشفاعة اليوم المشهود، ولواء الحمد المعقود، صلى الله عليه وعلى آله وسلم أفضل صلاة تفضي إلى الظل الممدود، وتبلغنا من شفاعته أفضل موعود، بعثه الله للأحمر والأسود، والأدنى والأبعد، فصدع بأمره وظلام الليل غير منجاب، والداعي إلى الله غير مجاب، وأهل الجاهلية كثيرٌ عددهم، شديدٌ جلدهم، بعيدٌ في الضلالة والغواية أمدهم، فسلك من هدايتهم سبيلاً، وصبر لهم صبراً جميلاً، يحب صلاحهم وهم العدو، ويلين لهم إذا جد بهم العتو، ويجهد في أظهار دينه ولدين الله الظهور والعلو، حتى انقادوا بين سابق سبقت له السعادة، ولاحق تداركته المشيئة والإرادة، ولما رفعت راية الإسلام، وشفعت حجة الكتاب حجة الإسلام، ودعي الناس إلى التزام الأحكام، ونهوا عن الاستقسام بالأزلام، أخبتوا إلى الرب المعبود، وأشفقوا من تعدي الحدود، ووعظوا في الأيمان والعهود، فأتمروا للشرع حين أمر، وخافوا وخامة من إذا عاهد غدر، فكان الرجل يدع الخوض فيما لا يعلمه، ويترك حقه لأجل يمين تلزمه، وشرعت الأيمان في كل فنٍ بحسب المحلوف عليه، وعلى قدر الحاجة إليه، فواحدةٌ في المال لحق الأداء، وأربعٌ مخمسةٌ عند ملاعنة النساء، وخمسون انتهي إليها في أحكام الدماء، فتوثق للحدود على مقاديرها، وجرت أمور العبادات والمعاملات على أفضل تقديرها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدل قائم، والشرع على القوي والضعيف حاكم، والرب جل جلاله بما تخفي الصدور عالم، وقام بعده الخلفاء الأربعة أركان الدين، وأعضاد الحق المبين، يحملون الناس على سننه الواضح، وينفذون أمور المصالح، ويتفقهون في الأحكام وقوفاً مع الظاهر وترجيحاً للراجح، وكانوا يتوقفون في بعض الأحيان، ويطلبون للشبه وجه البيان، ويستظهرون على تحقيق كثيرٍ من الوقائع بالأيمان، حتى كان عليٌ كرم الله وجهه يستثبت في الدراية، ويستحلف الراوي على الرواية، وما أنكر ذلك أحدٌ، ولا أعوزه من الشرع مستند، رضي الله عنهم أئمةٌ بالعدل قضوا، وعلى سبيله مضوا، والسيرة الجليلة تخيروا وارتضوا، وعن سيد الأنام، ومستنزل در الغمام، عم نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، الحامي الحدب، والمعقل الأشب، والغيث الهامل المنسكب، أبي الفضل العباس بن عبد المطلب، وعن الفائزين بالرتبة الكريمة، والصحبة القديمة، والمناقب العظيمة، بدور الظلام وبحور الحكم، وصدور أندية الفضل والكرم، وسائر صحابه عليهم السلام الذين أسلموا على عمره، وأسلفوا جداً في نصره، وأدركوا من بركة عيانه وزمانه ما لا مدرك لحصره، كرم الله مآبهم، وأجزل ثوابهم، وشكر لهم صبرهم واحتسابهم، فلقد عقدوا نية الصدق عند قيامهم لأداء فريضة الإطاقة، واستباحوا صلاة الشكر حين رفعوا حدث الردة وأراقوا سؤر الشرك وقد استحق بنجاسته الإراقة، وابتزوا كسرى زينته فأبرزوها على سراقة، فرأوا عياناً ما أخبر به سيد المرسلين، وملكوا ما زوي له منها فاطلع عليه بحقه المبين، وذهبوا فأظلمت الأرض من بعدهم، وتنكرت المعارف لفقدهم، واختلط الهمل والمرعي، وتشابه الصريح والدعي، وثارت الفتن من كل جانب، وصارت الحقوق نهبة كل ناهب، ولما برحت العهود، وتعديت الحدود، بلغ الوقت المحدود، وطلعت ببياض العدل الرايات السود، تحتها سادات الناس، وذادة موقف الباس، وشهب اليوم العماس، ونجب البيت الكريم من بني العباس، فأعادوا إلى الأمر رونقه، ونفوا عن الصفو رنقه، وحموا حرم المسلمين، وأحيوا سنة ابن عمهم سيد المرسلين، فأصبحت الأمور مضبوطة، والثغور محوطة، والسبل آمنة، والرعية في ظل العدل والأمن ساكنة، وكان الناس قبلهم قد ركبوا الصعب والذلول، وامتطوا الحزن والسهول، فوثقوا منهم بطاعتهم، واستحلفوهم على بيعاتهم، ذلك بأنهم ألزموهم منها واجباً على القطع، لازماً بإلزام الشرع، ووجدوا لمصلحة الارتباط بالأيمان شواهد من الآثار المنقولة، والأصول المقبولة، ومن أعطى من نفسه كل ما عليها، وراعى جملة المصالح وكل ما تطرق إليها، فكيف لا يكون في سعةٍ من هذا التكليف المستند إلى الآثار الشرعية، الداخل في أقسام المصالح المرعية؟ كما سلف من الأئمة المهتدين، آباء أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، ابن عم سيدنا وسيد المرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين. شواهد من الآثار المنقولة، والأصول المقبولة، ومن أعطى من نفسه كل ما عليها، وراعى جملة المصالح وكل ما تطرق إليها، فكيف لا يكون في سعةٍ من هذا التكليف المستند إلى الآثار الشرعية، الداخل في أقسام المصالح المرعية؟ كما سلف من الأئمة المهتدين، آباء أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، ابن عم سيدنا وسيد المرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين.
لما دعا الناس بالمملكة الفلانية حماها الله إلى حجتهم القوية، وإمرتهم الهاشمية، مجاهد الدين، بسيف أمير المؤمنين، جمال الإسلام، مجد الأنام، تاج خواص الإمام، فخر ملوكه، شرف أمرائه، المتوكل على الله تعالى أمير المسلمين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود، أسعد الله أيامه، ونصر أعلامه، وقام لذلك متوحداً المقام الكريم، مشمراً عن ساعد التصميم، ماضياً على الهول مضاء الحسام القاضب، غاضباً لأمر الله ورضاه على غاية هذا الغاضب، مالت إليه الأجياد، وانثالت عليه البلاد، فانتظمها مدينةً مدينة، وجعل التوكل على الله سبحانه شريعةً منيعة وذريعةً معينة، وتقدم- أيده الله- بأخذ البيعة على نفسه وعلى أهل الملة قاطبةً للقائم بأمر الله سيدنا ومولانا الخليفة الإمام المستنصر بالله أبي جعفر أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آله الخلفاء الراشدين، وكان له في ذلك المرام السعيد، والمقام الحميد، والقدم الذي رضي إبداءه وإعادته المبدئ المعيد، وخاطب الديوان العزيز النبوي- خلد الله شرفه- متضرعاً لوسائل خدمته، متعرضاً لعواطف رحمته، وبعث رسوله على أصدق رجاءً في القبول، وأثبت أملٍ في الإسعاف بالمأمول، وأثناء هذه الإرادة القويمة، والسعادة الكريمة، تفاوض أهل البلاد في توثيق عقدهم للسلطان فلان المشار إليه الذي هو حكم من أحكام الإجماع المنعقد، وأصلٌ أفضى إليه نظر الناظر واجتهاد المجتهد، إذ أجالوا الأمر فيما يزيده وثاقة، ويكسو وجهه على الأيام بشراً وطلاقة، ويجعل القلوب مطمئنةً برسوخه في الأعقاب، وثبوته على الأحقاب، فلم يروا رأياً أسد، ولا عملاً أحصف وأشد، من أن يطلبوه بعقد البيعة لابنه الواثق بالله المعتصم به أبي بكر محمد بن مجاهد الدين، سيف أمير المؤمنين، على أن يكون ولي عهدهم مدة والده مد الله في حياته، وأميرهم عند الأجل الذي لا بد من موافاته، فأمضى لهم ذلك من اتفاقهم، وأثبتوا على ما شرطته بيعته في أعناقهم. وبعد ذلك أتى صولة الإسلام، وصلة دار السلام، وورد رسول مثابة الجلالة، ونيابة الرسالة، وملتزم الملائك، ومعتصم الممالك، ومعه الكتاب الذي هو نصٌ أغنى عن القياس، بل هو نورٌ يمشي به في الناس، وأدى إلى السلطان فلان المشار إليه من تشريف الديوان العزيز النبوي ما وسمه من الفخار بأجل وسمه، وقلده السيف الصارم وسماه باسمه، فتلاقى السيفان المضروب والضارب، واشتبه الوصفان الماضي والقاضب، وبرزت تلك الخلع فابيض وجه الإسلام من سوادها، ووضع الكتاب فكادت المنابر تسعى إليه شوقاً من أعوادها، وقرئت وصايا الإمام، على الأنام، فعلموا أنها من تراث الرسالة، وقالوا: كافل الإسلام جدد له بهذا الصقع الغربي حكم الكفالة، وسمعوا من التقدم بإنصافهم، والتهمم بمواسطهم وأطرافهم، جملاً عفروا لها الجباه جوداً بالجهد، وسجدوا للشكر والحمد، فأدركوا من بركة المشاهد أثبت شرفٍ وأبقاه، ورأوا حقيقة ما كادت الأوهام تزول عن مرقاه، وازدادوا يقيناً بفضل ما صاروا إليه، ورأوا عياناً يمن ما بايعوا عليه، فتوافت طوائفهم المتبوعة، وجماهيرهم المجموعة، بداراً إلى المراضي الشريفة، وبناءً على وصايا عهد الخليفة، أن يجددوا البيعة لمجاهد الدين، سيف أمير المؤمنين، تولى الله عضده، ولابنه الواثق بالله المعتصم به أنهضه الله بإمرته بعده، ولم تعد أن تكونالزيادة الطارئة شرطاً في تقرير الإمرة المؤداة وإثباتها، أو جاريةً مجرى السنن التي يؤمر المصلي بالإعادة عند فواتها، فأعادوا بيعته أداءً للفريضة ورجاءً للفضيلة، واستندوا إلى الإشارات الجليلة، بعد الاستخارات الطويلة، ورأوا أن يأخذوا بها عادة البيعات العباسية، واتخاذ حكم الأصل طريق الألحاقات القياسية، فبايعوا على تذكرٍ بيعةً أكدوها بالعهود المستحفظة، ووثقوها بالأيمان المغلظة، وبادروا بها نداء مناديهم، وأعطوا على الإصفاق بها صفقة أيديهم.
ولما انتهى ذلك إلى الملإ من أهل فلانة وجهاتها، رأوا أن يحلف من سبق، ويصدقوا النية مع من صدق، ويعقدوا ما عقدوا على ما صرح به العهد الشريف ونطق، فحضر منهم العلماء والصلحاء، والأجناد والوزراء والفقهاء، والكافة على تباينهم في المراتب، وتفاوتهم في المناصب، واختلافهم في المواطن والمكاسب، فأمضوها بيعة كريمة المقاصد، سليمة المعاقد، عهدها محكم، وعقده مبرم، وموجبها طاعةً وسمع، والتقيد بها سنة وشرع، ويعمرون بها أسرارهم، ويفنون عليها أعمارهم، ويدينون بها في عسر ويسر، وربح وخسر، وضيق ورفاهية، ومحبة وكراهية، تبرعوا بذلك كله طوعاً، واستوفوه فصلاً فصلاً ونوعاً نوعا، وعاهدوا عليها الذي يعلم السر وأخفى، وأضمروا منها على ما أبر على الظاهر وأوفى، وتقبلوا من الوفاء به ما وصف الله به خليله إذ قال: وإبْراهِيم الَّذِي وَفَّى، وأقسموا بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم، وبما أخذه على أنبيائه الكرام من العهود المؤكدة، والمواثيق المشددة، على أنهم إن حادوا عن هذه السبيل، وانقادوا لداعي التحريف والتبديل، فهم براآء من حول الله وقوته إلى حولهم وقوتهم، تاركون ذمته الوافية لذمتهم، والأيمان كلها لازمةٌ لهم على مذهب إمام دار الهجرة، وطلاق كل امرأةٍ في ملك كل واحدٍ منهم لازمٌ لهم ثلاثاً، وأيما امرأةٍ تزوجها في البلاد الفلانية فطلاقها لازمٌ له، كلما تزوج واحدٌ منهن واحدةً خرجت طالقاً ثلاثاً، وعلى كل واحدٍ منهم المشي إلى بيت الله الحرام على قدميه، محرماً من منزله بحجةٍ كفارةً لا تجزيء عن حجة الإسلام، وعبيدهم وأرقاؤهم عتقاء لاحقون بأحرار المسلمين، وجميع أموالهم عيناً وعرضاً، حيواناً وأرضاً، وسائر ما يحويه المتملك كلاً وبعضاً، صدقةٌ لبيت مال المسلمين، حاشى عشرة دنانير. كل ذلك على أشد مذاهب الفتوى، وألزمها، لكلمة التقوى، وأبعدها من مخالفة الهوى والظاهر والفحوى، أرادوا بذلك رضا الخلافة الفلانية والفلانية بلقبي السلطنة للسلطان وولده المأخوذ لهما البيعة بعد بيعته، وأشهدوا الله على أنفسهم، وكفى بذلك اعتزاماً والتزاماً، وشداً لما أمر به وإحكاماً: {فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّما يَنْكُثُ على نَفْسِه} {ومَنْ يفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً}. وهم يرفعون دعاءهم إلى الله تضرعاً واستسلاماً، ويسألونه عصمةً وكفاية افتتاحاً واختتاماً، اللهم إنا قد أنفذنا هذا العقد اقتداءً واهتماماً، وقضينا حقه إكمالاً وإتماماً، وأسلمنا وجهنا إليك إسلاماً، فعرفنا من خيره وبركته نماءً ودواماً، وأكلأنا بعينك حركةً وسكوناً ويقظةً ومناماً، {وهَبْ لَنَا مِنْ أزْواجِنا وذُرِّيَّاتنا قُرَّةَ أعْيُنٍ وأجْعَلنا للمتَّقِينَ إماماً} إنك أنت الله منتهى الرغبات، ومجيب الدعوات، وإله الأرض والسموات.
وهذه نسخة بيعة مرتبة على موت خليفة، أنشأتها على هذه الطريقة لموافقتها رأي كتاب الزمان في افتتاح عهود الملوك عن الخلفاء بالحمد لله كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى، وتعرضت فيها إلى قيام سلطان بعقدها؛ لمطابقة ذلك لحال الزمان وهي: الحمد لله الذي جعل الأمة المحمدية أبذخ الأمم شرفاً، وأكرمها نجاراً وأفضلها سلفاً، وجعل رتبة الخلافة أعلى الرتب رتبةً وأعزها كنفاً، وخص الشجرة الطيبة من قريش بأن جعل منهم الأئمة الخلفا، وآثر الأسرة العباسية منها بذلك، دعوةٌ سبقت من ابن عمهم المصطفى، وحفظ بهم نظامها على الدوام فجعل ممن سلف منهم خلفاً.
نحمده على أن هيأ من مقدمات الرشد ما طاب الزمان به وصفا، وجدد من رسوم الإمامة بخير إمامٍ ما درس منها وعفا، وأقام للمسلمين إماماً تأرج الجو بنشره فأصبح الوجود بعرفه معترفاً.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص تمسك بعهدها فوفى، وأعطاها صفقة يده للمبايعة فلا يبغي عنها مصرفاً، وأن محمداً عبده ورسوله الذي تدارك الله به العالم بعد أن أشفى فشفى، ونسخت آية دينه الأديان، وجلا بشرعته المنيرة من ظلمة الجهل سدفاً، وجعل مبايعه مبايعاً لله يأخذه بالنكث ويوفيه أجره على الوفا، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وعترته الشرفا، ورضي الله عن أصحابه الذين ليس منهم من عاهد الله فغدر ولا واد في الله فجفا، خصوصاً من جاء بالصدق وصدق به فكان له قرابةً وصفوة الصفا، والمرجوع إليه في البيعة السقيفة بعدما اشرأبت نحوها نفوسٌ كادت تذوب عليها أسفاً، والقائم في قتال أهل الردة من بني حنيفة حتى استقاموا على الحنيفة حنفا، ومن استحال دلو الخلافة في يده غرباً فكان أفيد عبقري قام بأمرها فكفى، وعمت فتوحه الأمصار وحملت إليه أموالها فلم يمسكها إقتاراً ولم يبذر فيها سرفاً. ومن كان فضله لسهم الاختيار من بين أصحاب الشورى هدفاً، وجمع الناس في القرآن على صحيفةٍ واحدةٍ وكانت قبل ذلك صحفاً، ومن سرى إليه سر: «أما تَرْضى أنْ تكُون منِّي بمنزلة هارُون من مُوسى» فغدا يجر من ذيل الفخار سجفاً، واستولى على المكارم من كل جانبٍ فحازَ أطْرافَها طَرَفاً طَرَفاً، وعلى سائر الخلفاء الراشدين بعدهم ممن سلك سبيل الحق ولطريق الهدى اقتفى، صلاةً ورضواناً يذهبان الداء العضال من وخامة الغدر ويجلبان الشفا، ويرفعان قدر صاحبهما في الدنيا ويبوئان منتحلهما من جنات النعيم غرفاً.
أما بعد، فإن عقد الإمامة لمن يقوم بأمر الأمة واجبٌ بالإجماع، مستندٌ لأقوى دليلٍ تنقطع دون نقضه الأطماع، وتنبو عن سماع ما يخالفه الأسماع، إذ العباد مجبولون على التباين والتغير، مطبوعون على التحالف والتناصر، مضطرون إلى التعاون والتجاور، مفتقرون إلى التعاضد والتوازر، فلا بد من زعيم يمنعهم من التظالم، ويحملهم على التناصف في التداعي والتحاكم، ويقيم الحدود فتصان المحارم عن الانتهاك، وتحفظ الأنساب عن الاختلاط والاشتراك، ويحمي بيضة الإسلام فيمنع أن تطرق، ويصون الثغور أن يتوصل إليها أو يتطرق، ليعز الإسلام داراً، ويطمئن المستخفي ليلاً ويأمن السارب نهاراً، ويذب عن الحرم فتحترم، ويذود عن المنكرات فلا تغشى بل تصطلم، ويجهز الجيوش فتنكأ العدو، وتغير على بلاد الكفر فتمنعهم القرار والهدو، ويرغم أنف الفئة الباغية ويقمعها، ويدغم الطائفة المبتدعة ويردعها، ويأخذ أموال بيت المال بحقها فيطاوع، ويصرفها إلى مستحقها فلا ينازع، لا جرم اعتبر للقيام بها أكمل الشروط وأتم الصفات، وأكرم الشيم وأحسن السمات.
وكان السيد الأعظم الإمام النبوي، سليل الخلافة، وولي الإمامة، أبو فلان فلان العباسي المتوكل على الله مثلاً أمير المؤمنين، سلك الله تعالى به جدد آبائه الراشدين، هو الذي جمع شروطها فوفاها، وأحاط منها بصفات الكمال واستوفاها، ورامت به أدنى مراتبها فبلغت إلى أعياها، وتسور معاليها فرقي إلى أعلاها، واتحد بها فكان صورتها ومعناها- وكانت الإمامة قد تأيمت ممن يقوم بأعبائها، وعزت خطابها لقلة أكفائها، فلم تلف لها بعلاً يكون لها قريناً، ولا كفئاً تخطبه يكون لديها مكيناً، إلا الإمام الفلاني المشار إليه، فدعته لخطبتها، وهي بيت عرسه، {وَرَاوَدَتْهُ الَّتي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِه} فأجاب خطبتها، ولبى دعوتها؛ لتحققه رغبتها إليه وعلمه بوجوب إجابتها عليه، إذ هو شبلها الناشئ بغابها، وغيثها المستمطر من سحابها، بل هو أسدها الهصور، وقطب فلكها الذي عليه تدور، ومعقلها الأمنع الحصين، وعقدها الأنفس الثمين، وفارسها الأروع وليثها الشهير، وابن بجدتها الساقطة منه على الخبير، وتلادها العليم بأحوالها، والجدير بمعرفة أقوالها وأفعالها، وترجمانها المتكلم بلسانها، وعالمها المتفنن في أفنانها، وطبيبها العارف بطبها، ومنجدها الكاشف لكربها.
وحين بلغت من القصد سولها، ونالت بالإجابة منه مأمولها، وحرم على غيره أن يسومها لذلك تلويحاً، أو يعرج على خطبتها تعريضاً وتصريحاً، احتاجت إلى ولي يوجب عقدها، وشهودٍ تحفظ عهدها، فعندها قام السلطان الأعظم الملك الفلاني بالألقاب السلطانية إلى آخرها خلد الله سلطانه، ونصر جنوده وجيوشه وأعوانه، فانتصب لها ولياً، وأقام يكفر في أمرها ملياً، فلم يجد أحق بها منه فتجنب عضلها، فلم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها، فجمع أهل الحل والعقد، المعتزين للاعتبار والعارفين بالنقد، من القضاة والعلماء، وأهل الخير والصلحاء، وأرباب الرأي والنصحاء، فاستشارهم في ذلك فصوبوه، ولم يروا العدول عنه إلى غيره بوجهٍ من الوجوه، فاستخار الله تعالى وبايعه، فتبعه أهل الاختيار فبايعوا، وانقادوا لحكمه وطاوعوا، فقابل عقدها بالقبول بمحضر من القضاة والشهود فلزمت، ومضى حكمها على الصحة وانبرمت. ولما تم عقدها، وطلع بصبح اليمن سعدها، التمس المقام الشريف السلطاني الملكي الفلاني المشار إليه أعلى الله شرف سلطانه ورفع محله، وقرن بالتوفيق في كل أمرٍ عقده وحله، أن يناله عهدها الوفي، ويرد منها موردها الصفي، ليرفع بذلك عن أهل الدين حجباً، ويزداد من البيت النبوي قرباً، فتعرض لنفحاتها من مقراتها، وتطلب بركاتها من مظناتها، ورغب إلى أمير المؤمنين، وابن عم سيد المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، أن يجدد له بعهد السلطنة الشريفة عقداً، ويأخذ له على أهل البيعة بذلك عهداً، ويستحلفهم على الوفاء لهما بما عاهدوا، والوقوف عندما بايعوا عليه وعاقدوا، ليقترن السعدان فيعم نوءهما، ويجتمع النيران فيبهر ضوءهما، فلباه تلبية راغب، وأجابه إجابة مطلوبٍ وإن كان هو الطالب، وعهد إليه في كل ما تقتضيه أحكام إمامته في الأمة عموماً وشيوعاً، وفوض له حكم الممالك الإسلامية جميعاً، وجعل إليه أمر السلطنة المعظمة بكل نطاق، وألقى إليه مقاليدها وصرفه فيها على الإطلاق، وأقامه في الأمة لعهد الخلافة وصياً، وجعله للإمامة بتفويض الأمر إليه ولياً، ونشر عليه لواء الملك وقلده سيفه العضب، وألبسه الخلعة السوداء فابيض من سوادها وجه الشرق والغرب، وكتب له بذلك عهداً كبت عدوه، وزاد شرفه وضاعف سموه، وطولب أهل البيعة بالتوثيق على البيعتين بالأيمان فأذعنوا، واستحلفوا على الوفاء فبالغوا في الأيمان وأمعنوا، وأقسموا بالله جهد أيمانهم، بعد أن أشهدوا الله عليهم في إسرارهم وإعلانهم، وأعطوا المواثيق المغلظة المشددة، وحلفوا بالأيمان المؤكدة المعقدة، على أنهم إن أعرضوا عن ذلك أو أدبروا، وبدلوا فيه أو غيروا، أو عرجوا عن سبيله أو حادوا، أو نقصوا منه أو زادوا، فكلٌ منهم بريء من حول الله وقوته إلى حول نفسه وقوته، وخارجٌ من ذمته الحصينة إلى ذمته، وكل امرأةٍ في نكاحه أو يتزوجها في المستقبل فهي طالقٌ ثلاثاً بتاتاً، وكلما راجعها فهي طالقٌ طلاقاً لا يقتضي إقامة ولا ثباتاً، وكل مملوكٍ في ملكه أو يملكه في المستقبل حرٌ لاحقٌ بأحرار المسلمين، وكل ما ملكه أو يملكه من جماد وحيوانٍ صدقةٌ عليه للفقراء والمساكين، وعليه الحج إلى بيت الله الحرام، والوقوف بعرفة وسائر المشاعر العظام، محرماً من دويرة أهله ماشياً، حاسراً عن رأسه وإن كان به أذًى حافياً، يأتي بذلك في ثلاثين حجة متتابعةً على التمام، لا تجزئه واحدةٌ منها عن حجة الإسلام، وإهداء مائة بدنٍ للبيت العتيق كل سنةٍ على الدوام، وعليه صوم جميع الدهر إلا المنهي عنه من الأيام، وأن يفك ألف رقبةٍ مؤمنةٍ من أسر الكفر في كل عام، يمين كلٍ منهم في ذلك على نية أمير المؤمنين، وسلطان المسلمين، في سره وجهره وأوله وآخره، لا نية للحالف في ذلك في باطن الأمر ولا في ظاهره، لا يوري في ذلك ولا يستثني، ولا يتأول ولا يستفتي، ولا يسعى في نقضها، ولا يخالف فيها ولا في بعضها، متى جنح إلى شيءٍ من ذلك كان آثماً، وما تقدم من تعقيد الأيمان له لازماً، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ولا يجزئه عن ذلك كفارةٌ أصلاً، كل ذلك على أشد المذاهب بالتخصيص، وأبعدها عن التساهل والترخيص. وأمضوها بيعةً ميمونة، باليمن مبتدأةً بالنجح مقرونة، وأشهدوا عليهم بذلك من حضر مجلس العقد من الأئمة الأعلام، والشهود والحكام، وجعلوا الله تعالى على ما يقولون وكيلاً، فاستحق عليهم الوفاء بقوله عزت قدرته: {وأوْفُوا بعهدِ اللهِ إذا عاهَدْتُمْ ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدها وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَليْكُم كَفِيلاً}. وهم يرغبون إلى الله تعالى أن يضاعف لهم بحسن نيتهم الأجور، ويلجأون إليه أن يجعل أئمتهم ممن أشار تعالى إليه بقوله: {الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهمْ في الأرض أقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاة وأمَرُوا بالمَعْرُوفِ ونَهَوْا عن المُنْكَرِ وللهِ عاقِبَةُ الأُمُور}. إن شاء الله تعالى. وفاء بقوله عزت قدرته: {وأوْفُوا بعهدِ اللهِ إذا عاهَدْتُمْ ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدها وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَليْكُم كَفِيلاً}. وهم يرغبون إلى الله تعالى أن يضاعف لهم بحسن نيتهم الأجور، ويلجأون إليه أن يجعل أئمتهم ممن أشار تعالى إليه بقوله: {الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهمْ في الأرض أقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاة وأمَرُوا بالمَعْرُوفِ ونَهَوْا عن المُنْكَرِ وللهِ عاقِبَةُ الأُمُور}. إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بيعةٍ مرتبة على خلع خليفةٍ، أنشأتها على هذه الطريقة أيضاً، وتعرضت فيها لذكر السلطان القائم بها، على ما تقدم في البيعة المرتبة على موت خليفةٍ، وهي: الحمد لله الذي جعل بيت الخلافة مثابةً للناس وأمناً، وأقام سور الإمامة وقايةً للأنام وحصناً، وشد لها بالعصابة القرشية أزراً وشاد منها بالعصبة العباسية ركناً، وأغاث الخلق بإمام هدًى حسن سيرةً وصفا سريرةً فراق صورةً ورق معنى، وجمع قلوبهم عليه فلم يستنكف عن الانقياد إليه أعلى ولا أدنى، ونزع جلبابها عمن شغل بغيرها فلم يعرها نظراً ولم يصغ لها أذناً، وصرف وجهها عمن أساء فيها تصرفاً فلم يرفع بها رأساً ولم يعمر لها مغنى.
نحمده على نعم حلت للنفوس حين حلت، ومنن جلت الخطوب حين جلت، ومسار سرت إلى القلوب فسرت، ومبار أقرت العيون فقرت، وعوارف أمت الخليفة فتوالت وما ولت، وقدم صدق ثبتت إن شاء الله في الخلافة فما تزلزلت ولا زلت.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تكون لنا من درك الشكوك كالئة، ولمهاوي الشبه دارئة، وللمقاصد الجميلة حاوية، ولشقة الزيغ والارتياب طاوية، وأن محمداً عبده ورسوله الذي نصح الأمة إذ بلغ فشفى عليلها، وأوردها من مناهل الرشد ما أطفأ وهجها وبرد غليلها، وأوضح لهم مناهج الحق ودعاهم إليها، وأبان لهم سبل الهداية: {فَمن اهْتَدى فإنَّما يَهْتَدِي لنَفْسِهِ ومَنْ ضَلَّ فإنَّما يَضِلُّ عليها} صلى الله عليه وعلى آله أئمة الخير وخير الأئمة، ورضي عن أصحابه أولياء العدل وعدول الأمة، صلاةً ورضواناً يعمان سائرهم، ويشملان أولهم وآخرهم، سيما الصديق الفائز بأعلى الرتبتين صدقاً وتصديقاً، والحائز قصب السبق في الفضيلتين علماً وتحقيقاً، ومن عدل الأنصار إليه عن سعد بن عبادة بعد ما أجمعوا على تقديمه، وبادر المهاجرون إلى بيعته اعترافاً بتفضيله وتكريمه، والفاروق الشديد في الله بأساً واللين في الله جانباً، والموفي للخلافة حقاً والمؤدي للإمامة واجباً، والقائم في نصرة الدين حق القيام حتى عمت فتوحه الأمصار مشارق ومغارباً، وأطاعته العناصر الأربعة؛ إذ كان لله طائعاً ومن الله خائفاً وإلى الله راغباً، وذي النورين المعول عليه من بين سائر أصحاب الشورى تنويهاً بقدره، والمخصوص بالاختيار تفخيماً لأمره، من حصر في بيته فلم يمنعه ذلك عن تلاوة كتاب الله وذكره، وشاهد سيوف قاتليه عياناً فقابل فتكاتها بجميل صبره، وأبي الحسن الذي أعرض عن الخلافة حين سئلها، واستعفى منها بعد ما اضطر إليها وقبلها، وكشف له عن حقيقة الدنيا فما أم قبلتها بقلبه ولا ولى وجهه قبلها، وصرح بمقاطعتها بقوله: يا صفراء غري غيري، يا بيضاء غري غيري لما وصلها من وصلها، وسائر الخلفاء الراشدين بعدهم، الناهجين نهجهم والواردين وردهم.
أما بعد، فإن للإمامة شروطاً يجب اعتبارها في الإمام، ولوازم لا يغتفر فواتها في الابتداء ولا في الدوام، وأوصافاً يتعين إعمالها، وآداباً لا يسع إهمالها، من أهمها العدالة التي ملاكها التقوى، وأساسها مراقبة الله تعالى في السر والنجوى، وبها تقع الهيبة لصاحبها فيجل، وتميل النفوس إليها فلا تمل، فهي الملكة الداعية إلى ترك الكبائر واجتنابها، والزاجرة عن الإضرار على الصغائر وارتكابها، والباعثة على مخالفة النفس ونهيها عن الشهوات، والصارفة عن انتهاك حرمات الله التي هي أعظم الحرمات، والموجبة للتعفف عن المحارم، والحاملة على تجنب الظلامات ورد المظالم، والشجاعة التي بها حماية البيضة والذب عنها، والاستظهار بالغزو على نكاية الطائفة الكافرة والغض منها، والقوة بالشوكة على تنفيذ الأوامر وإمضائها، وإقامة الحدود واستيفائها، ونشر كلمة الحق وإعلائها، ودحض كلمة الباطل وإخفائها، وقطع مادة الفساد وحسم أدوائها، والرأي المؤدي إلى السياسة وحسن التدبير، والمغني في كثيرٍ من الأماكن عن مزيد الجد والتشمير، والمعين في خدع الحرب ومكايده، والمسعف في مصادر كل أمر وموارده.
هذا وقد جعلنا الله أمةً وسطاً، ووعظنا بمن سلف من الأمم ممن تمرد وعتا أو تجبر وسطا، وعصم أمتنا أن تجتمع على الضلال، وصان جمعنا عن الخطل في الفعال والمقال، وندبنا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسوغ لأئمتنا الاجتهاد في النوازل والأحكام فاجتهادهم لا ينكر، خصوصاً في شأن الإمامة التي هي آكد أسباب المعالم الدينية وأقواها، وأرفع المناصب الدنيوية وأعلاها، وأعز الرتب رتبةً وأغلاها، وأحقها بالنظر في أمرها وأولاها. وكان القائم بأمر المسلمين الآن فلان بن فلان الفلاني ممن حاد عن الصراط المستقيم، وسلك غير النهج القويم، ومال عن سنن الخلفاء الراشدين فأدركه الزلل، وقارف المآثم فعاد بالخلل، فعاث في الأرض فساداً، وخالف الرشد عناداً، ومال إلى الغي اعتماداً، وأسلم إلى الهوى قياداً، قد انتقل عن طور الخلافة، وعزيز الإنافة، إلى طور العامة فاتصف بصفاتهم، واتسم بسماتهم، فمنكرٌ يجب عليه إنكاره قد باشره، وصديق سوء يتعين عليه إبعاده قد وازره وظاهره، إن سلك فسبل التهمة والارتياب، أو قصد أمراً نحا فيه غير الصواب، منهمكٌ على شهواته، منعكفٌ على لذاته، متشاغلٌ عن أمر الأمة بأمر بنيه وبناته، الجبن رأس ماله، وعدم الرأي قرينه في أفعاله وأقواله، قد قنع من الخلافة باسمها، ورضي من الإمامة بوسمها، وظن أن السؤدد في لبس السواد فمال إلى الحيف، وتوهم أن القاطع الغمد فقطع النظر عن السيف.
ولما اطلع الناس منه على هذه المنكرات، وعرفوه بهذه السمات، وتحققوا فيه هذه الوصمات، رغبوا في استبداله، وأجمعوا على خلعه وزواله، فلجأوا إلى السلطان الأعظم الملك الفلاني بالألقاب السلطانية إلى آخرها نصر الله جنوده، وأسمى جدوده، وأرهف على عداة الله حدوده، ففوضوا أمرهم في ذلك إليه، وألقوا كلهم عليه، فجمع أهل الحل والعقد منهم، ومن تصدر إليهم الأمور وترد عنهم، فاستخاروا الله تعالى وخلعوه من ولايته، وخرجوا عن بيعته، وانسلخوا عن طاعته، وجردوه من خلافته، تجريد السيف من القراب، وطووا حكم إمامته، كطي السجل للكتاب. وعندما تم هذا الخلع، وانطوى حكمه على البت والقطع، التمس الناس إماماً يقوم بأمور الإمامة فيوفيها، ويجمع شروطها ويستوفيها، فلم يجدوا لها أهلاً، ولا بها أحق وأولى، وأوفى بها وأملى، من السيد الأعظم الإمام النبوي سليل الخلافة، وولي الإمامة أبي فلانٍ فلان العباسي الطائع لله مثلاً أمير المؤمنين، لا زال شرفه باذخاً، وعرنينه الشريف شامخاً، وعهد ولايته لعهد كل ولايةٍ ناسخاً، فساموه بيعتها فلبى، وشاموا برقه لولايتها فأجاب وما تأبى، علماً منه بأنها تعينت عليه، وانحصرت فيه فلم تجد أعلى منه فتعدل إليه، إذ هو ابن بجدتها، وفارس نجدتها، ومزيل غمتها، وكاشف كربتها، ومجلي غياهبها، ومحمد عواقبها، وموضح مذاهبها، وحاكمها المكين، بل رشيدها الأمين، فنهض المقام الشريف السلطاني الملكي الفلاني المشار إليه، قرن الله مقاصده الشريفة بالنجاح، وأعماله الصالحة بالفلاح، وبدر إلى بيعته فبايع، وأتم به من حضر من أهل الحل والعقد فتابع، وقابل عقدها بالقبول فمضى، ولزم حكمها وانقضى، واتصل ذلك بسائر الرعية فانقادوا، وعلموا صوابه فمشوا على سننه وما حادوا، وشاع خبر ذلك في الأمصار وطارت به مخلقات البشائر إلى سائر الأقطار، فتعرفوا منه اليمن فسارعوا إلى امتثاله، وتحققوا صحته وثباته بعد اضطرابه واعتلاله، واستعاذوا من نقصٍ يصيبه بعد تمامه لهذا الخليفة وكماله، فعندها أبانت الخلافة العباسية عن طيب عنصرها، وجميل وفائها وكريم مظهرها، وجادت بجزيل الامتنان، وتلا لسان كرمها الوفي على وليها الصادق: {هَلْ جزاءُ الإْحسانٍ إلاَّ الإحْسان} فجدد له بالسلطنة الشريفة عهداً، وطوق جيده بتفويضها إليه عقداً، وجعله وصيه في الدين، ووليه في أمر المسلمين، وقلده أمر الممالك الإسلامية وألقى إليه مقاليدها، وملكه أزمتها وحقق له مواعيدها، وعقد له لواءها ونشر عليه أعلامها، وصرفه فيها على الإطلاق وفوض إليه أحكامها، وألبسه الخلعة السوداء فكانت لسؤدده شعاراً، وأسبغ عليه رداءها فكان له دثاراً، وكتب له العهد فسقى المعاهد صوب العهاد، ولهج الأنام بذكره فاطمأنت العباد والبلاد، وعندما تم هذا الفصل، وتقرر هذا الأصل، وأمست الرعايا بما آتاهم الله من فضله فرحين، وبنعمته مستبشرين، طولب أهل البيعة بما يحملهم على الوفاء، ويمنع بيعتهم من التكدر بعد الصفاء، من توثيق عقدها بمؤكد أيمانها، والإقامة على الطاعة لخليفتها وسلطانها، فبادروا إلى ذلك مسرعين، وإلى داعيه مطعين، وبالغوا في المواثيق وأكدوها، وشددوا في الأيمان وعقدوها، وأقسموا بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور في البدء والإعادة، على الوفاء لهما والموالاة، والنصح والمصافاة، والموافقة والمشايعة، والطاعة والمتابعة، يوالون من والاهما، ويعادون من عاداهما، لا يقعدون عن مناصرتهما عند إلمام ملمة، ولا يرقبون في عدوهما إلاً ولا ذمة، جارين في ذلك على سنن الدوام والاستمرار، والثبوت واللزوم والاستقرار، على أن من بدل منهم من ذلك شرطاً أو عفى له رسماً، أو حاد عن طريقه أو غير له حكماً، أو سلك في ذلك غير سبيل الأمانة، أو استحل الغدر وأظهر الخيانة، معلناً أو مسراً في كله أو بعضه، متأولاً أو محتالاً لإبطاله أو نقضه، فقد بريء من حول الله المتين وقوته الواقية، وركنه الشديد وذمته الوافية، إلى حول نفسه وقوته، وركنه وذمته. وكل امرأةٍ في عصمته الآن أو يتزوجها مدة حياته طالقٌ ثلاثاً بصريح لفظ لا يتوقف على نية، ولا يفرق فيه بين سنة ولا بدعة ولا رجعة فيه ولا مثنوية، وكل مملوك في ملكه أو يملكه في بقية عمره من ذكر أو أنثى حرٌ من أحرار المسلمين، وكل ما هو على ملكه أو يملكه في بقية عمره إلى آخر أيامه من عينٍ أو عرض صدقةٌ للفقراء والمساكين، وعليه الحج إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجةً بثلاثين عمرةً راجلاً حافياً حاسراً، لا يقبل الله منه غير الوفاء بها باطناً ولا ظاهراً، وإهداء مائة بدنةٍ في كل حجة منها في عسرته ويسرته، لا تجزئه واحدةٌ منها عن حجة الإسلام وعمرته، وصوم الدهر خلا المنهي عنه من أيام السنة، وصلاة ألف ركعةٍ في كل ليلة لا يباح له دون أدائها غمض ولا سنة، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ولا يؤجر على شيءٍ من ذلك قولاً ولا فعلاً، متى ورى في ذلك أو استثنى، أو تأول أو استفتى، كان الحنث عليه عائداً، وله إلى دار البوار قائداً، معتمداً في ذلك أشد المذاهب في سره وعلانيته، على نية المستحلف له دون نيته، وأمضوها بيعةً محكمة المباني ثابتة القواعد، كريمة المساعي جميلة المقاصد، طيبة الجنى جليلة العوائد، قاطعة البراهين ظاهرة الشواهد، وأشهدوا على أنفسهم بذلك من حضر مجلس هذا العقد من قضاة الإسلام وعلمائه، وأئمة الدين وفقهائه، بعد أن أشهدوا الله عليهم وكفى بالله شهيداً، وكفى به للخائنين خصيماً: {فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّما يَنْكُثُ على نَفْسِهِ ومَنْ أوْفى بمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فسَيُؤْتِيهِ أجْراً عَظِيماً}. والله تعالى يجعل انتقالهم من أدنى إلى أعلى، ومن يسرى إلى يمنى، ويحقق لهم بمن استخلفه عليهم وعده الصادق بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِين آمَنُوا مِنْكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأرْضِ كَمَا استَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذي ارْتَضى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمَ أمْناً}. إن شاء الله تعالى. ويملكه في بقية عمره إلى آخر أيامه من عينٍ أو عرض صدقةٌ للفقراء والمساكين، وعليه الحج إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجةً بثلاثين عمرةً راجلاً حافياً حاسراً، لا يقبل الله منه غير الوفاء بها باطناً ولا ظاهراً، وإهداء مائة بدنةٍ في كل حجة منها في عسرته ويسرته، لا تجزئه واحدةٌ منها عن حجة الإسلام وعمرته، وصوم الدهر خلا المنهي عنه من أيام السنة، وصلاة ألف ركعةٍ في كل ليلة لا يباح له دون أدائها غمض ولا سنة، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ولا يؤجر على شيءٍ من ذلك قولاً ولا فعلاً، متى ورى في ذلك أو استثنى، أو تأول أو استفتى، كان الحنث عليه عائداً، وله إلى دار البوار قائداً، معتمداً في ذلك أشد المذاهب في سره وعلانيته، على نية المستحلف له دون نيته، وأمضوها بيعةً محكمة المباني ثابتة القواعد، كريمة المساعي جميلة المقاصد، طيبة الجنى جليلة العوائد، قاطعة البراهين ظاهرة الشواهد، وأشهدوا على أنفسهم بذلك من حضر مجلس هذا العقد من قضاة الإسلام وعلمائه، وأئمة الدين وفقهائه، بعد أن أشهدوا الله عليهم وكفى بالله شهيداً، وكفى به للخائنين خصيماً: {فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّما يَنْكُثُ على نَفْسِهِ ومَنْ أوْفى بمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فسَيُؤْتِيهِ أجْراً عَظِيماً}. والله تعالى يجعل انتقالهم من أدنى إلى أعلى، ومن يسرى إلى يمنى، ويحقق لهم بمن استخلفه عليهم وعده الصادق بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِين آمَنُوا مِنْكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأرْضِ كَمَا استَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذي ارْتَضى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمَ أمْناً}. إن شاء الله تعالى.
المذهب الرابع مما يكتب في بيعات الخلفاء: أن يفتتح البيعة بلفظ هذه بيعة..:
ويصفها ويذكر ما يناسب، ثم يعزي بالخليفة الميت، ويهنئ بالخليفة المستقر، ويذكر في حق كل منهما ما يليق به من الوصف على نحوٍ مما تقدم.
وهذه نسخة بيعةٍ أنشأها المقر الشهابي بن فضل الله، على ما رأيته في الجواهر الملتقطة المجموعة من كلامه، للإمام الحاكم بأمر الله أبي القاسم أحمد بن أبي الربيع سليمان المستكفي بالله ابن الإمام الحاكم بأمر الله، بعد موت أبيه.
وذكر القاضي تقي الدين بن ناظر الجيش في دستوره أنه إنما عملها تجربةً لخاطره، وهي مرتبة على موت خليفة.
ونصها بعد البسملة الشريفة:
إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّما يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أوْفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أجْراً عَظِيماً.
هذه بيعة رضوان وبيعة إحسان، وبيعة رضاً تشهدها الجماعة ويشهد عليها الرحمن، بيعةٌ يلزم طائرها العنق، وتحوم بشائرها على الأفق، وتحمل أنباءها البراري والبحار مشحونة الطرق، بيعةٌ تصلح لنسبها الأمة، وتمنح بسببها النعمة، وتؤلف بها الأسباب وتجعل بينهم مودةً ورحمة، بيعةٌ تجري بها الرفاق، وتتزاحم زمر الكواكب على حوض المجرة للوفاق، بيعةٌ سعيدةٌ ميمونة، بيعةٌ شريفة بها السلامة في الدين والدنيا مضمونة، بيعةٌ صحيحةٌ شرعية، بيعةٌ ملحوظةٌ مرعية، بيعةٌ تسابق إليها كل نية وتطاوع كل طوية، وتجمع عليها أشتات البرية، بيعةٌ يستهل بها الغمام، ويتهلل البدر التمام، بيعةٌ متفق على الإجماع عليها، والاجتماع لبسط الأيدي إليها، انعقد عليها الإجماع، وانعقدت صحتها بمن سمع لله وأطاع، وبذل في تمامها كل امرئ ما استطاع، وحصل عليها اتفاق الأبصار والأسماع، ووصل بها الحق إلى مستحقه وأقر الخصم وانقطع النزاع، وتضمنها كتابٌ كريم يشهده المقربون، ويتلقاه الأئمة الأقربون.
{الحمدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أنْ هَدَانَا الله}، {ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ}. وإلينا ولله الحمد وإلى بني العباس. أجمع على هذه البيعة أرباب العقد والحل، وأصحاب الكلام فيما قل وجل، وولاة الأمور والأحكام، وأرباب المناصب والحكام، وحملة العلم والأعلام، وحماة السيوف والأقلام، وأكابر بني عبد مناف، ومن انخفض قدره وأناف، وسراوات قريش ووجوه بني هاشم والبقية الطاهرة من بني العباس، وخاصة الأئمة وعامة الناس، بيعةٌ ترسى بالحرمين خيامها، وتخفق على المأزمين أعلامها، وتتعرف عرفاتٌ ببركاتها وتعرف بمنًى أيامها، ويؤمن عليها يوم الحج الأكبر، وتؤم ما بين الركن والمقام والمنبر، ولا يبتغى بها إلا وجه الله الكريم، وفضله العميم، لم يق صاحب سنجقٍ ولا علم، ولا ضاربٌ بسيفٍ ولا كاتبٌ بقلم، ولا رب حكم ولا قضاء، ولا من يرجع إليه في اتفاقٍ ولا إمضاء، ولا إمام مسجد ولا خطيب، ولا ذو فتيا يسأل فيجيب، ولا من بين جنبتي المساجد ولا من تضمهم أجنحة المحاريب، ولا من يجتهد في رأيٍ فيخطيء أو يصيب، ولا متحدثٌ بحديث، ولا متكلم بقديم وحديث، ولا معروفٌ بدينٍ وصلاح، ولا فرسان حرب وكفاح، ولا راشقٌ بسهام ولا طاعنٌ برماح، ولا ضاربٌ بصفاح، ولا ساعٍ على قدم ولا طائرٌ بغير جناح، ولا مخالطٌ للناس ولا قاعدٌ في عزلة، ولا جمع كثرة ولا قلة، ولا من يستقل بالحوزاء لواؤه، ولا يقل فوق الفرقد ثواؤه، ولا بادٍ ولا حاضر، ولا مقيمٌ ولا سائر، ولا أولٌ ولا آخر، ولا مسرٌ في باطن ولا معلنٌ في ظاهر، ولا عربٌ ولا عجم، ولا راعي إبل ولا غنم، ولا صاحب أناةٍ ولا إبدار، ولا ساكنٌ في حضر وباديةٍ بدار، ولا صاحب عمد ولا جدار، ولا ملججٌ في البحار الزاخرة والبراري القفار، ولا من يتوقل صهوات الخيل، ولا من يسبل على العجاجة الذيل، ولا من تطلع عليه شمس النهار ونجوم الليل، ولا من تظله السماء وتقله الأرض، ولا من تدل عليه الأسماء على اختلافها وترتفع درجات بعضهم على بعض، حتى آمن بهذه البيعة وأمن عليها، ومن الله عليه وهداه إليها، وأقر بها وصدق، وغض لها بصره خاشعاً وأطرق، ومد إليها يده بالمبايعة، ومعتقده بالمتابعة، رضي بها وارتضاها، وأجاز حكمها على نفسه وأمضاها، ودخل تحت طاعتها وعمل بمقتضاها: {وقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَقِيلَ الحمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ}.
والحمد لله الذي نصب الحاكم ليحكم بين عباده وهو أحكم الحاكمين، والحمد لله الذي أخذ حق آل بيت نبيه من أيدي الظالمين، والحمد لله رب العالمين، ثم الحمد لله رب العالمين، ثم الحمد لله رب العالمين، والحمد لله رب العالمين.
وإنه لما استأثر الله بعبده سليمان أبي الربيع الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين- كرم الله مثواه- وعوضه عن دار السلام بدار السلام، ونقله فزكى بدنه عن شهادة السلام بشهادة الإسلام، حيث آثره ربه بقربه، ومهد لجنبه وأقدمه على ما أقدمه من يرجوه لعمله وكسبه، وخار له في جواره رقيقاً، وجعل له على صالح سلفه طريقاً، وأنزله {مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَليْهِمْ من النّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهدَاءِ والصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً}. الله أكبر ليومه لولا مخلفه كادت تضيق الأرض بما رحبت، وتجزى كل نفس بما كسبت، وتنبئ كل سريرةٍ بما أدخرت وما خبت، لقد اضطرم سعيرٌ، إلا أنه في الجوانح، لقد اضطرب منبر وسريرٌ، لولا خلفه الصالح، لقد اضطرب مأمورٌ وأميرٌ، لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح، لقد غاضت البحار، لقد غابت الأنوار، لقد غالب البدور ما يلحق الأهلة من المحاق ويدرك البدر من السرار، نسفت الجبال نسفا، وخبت مصابيح النجوم وكادت تطفى: {وجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفّاً صَفّا}. لقد جمعت الدنيا أطرافها وأزمعت على المسير، وجمعت الأمة لهول المصير، وزاغت يوم موته الأبصار: {إنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمئِذٍ لَخَبِير}. وبقيت الألباب حيارى، ووقفت تارةً تصدق وتارةً تتمارى، لا تعرف قراراً، ولا على الأرض استقراراً: {إنَّ زَلْزَلةَ السَّاعةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضعةٍ عَمَّا أرضعَتْ وتَضَعُ كلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وتَرَى الناسَ سُكَارى وما هُمْ بِسُكَارى}.
ولم يكن في النسب العباسي ولا في جميع من في الوجود، لا في البيت المسترشدي ولا في غيره من بيوت الخلفاء من بقايا آباءٍ لهم وجدود، ولا من تلده أخرى الليالي وهي عاقرٌ غير ولود، من تسلم إليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم عقد نياتها، وسر طوياتها، إلا واحدٌ وأين ذلك الواحد؟ هو والله من انحصر فيه استحقاق ميراث آبائه الأطهار، وتراث أجداده ولا شيء هو إلا ما اشتمل عليه رداء الليل والنهار، وهو ابن المنتقل إلى ربه، وولد الإمام الذاهب لصلبه، المجمع على أنه في الأنام، فرد الأيام، وواحدٌ وهكذا في الوجود الإمام، وأنه الحائز لما زررت عليه جيوب المشارق والمغرب، والفائز بملك ما بين الشارق والغارب، الراقي في صفيح السماء هذه الذروة المنيفة، الباقي بعد الأئمة الماضين رضي الله عنهم ونعم الخليفة، المجتمع فيه شروط الإمامة، المتضع لله وهو من بيتٍ لا يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة، الذي تصفح السحاب نائله، والذي لا يغره عاذره ولا يغيره عاذله، والذي: [طويل]
تعوّد بسط الكفّ حتّى لو أنّه ** ثناها لقبضٍ لم تطعه أنامله

والذي [طويل]
لا هو في الدّنيا مضيعٌ نصيبه ** ولا ورق الدّنيا عن الدّين شاغله

والذي ما ارتقى صهوة المنبر بحضرة سلطان زمانه إلا قال ناصره وقام قائمه، ولا قعد على سرير الخلافة إلا وعرف بأنه ما خاب مستكفيه ولا غاب حاكمه، نائب الله في أرضه، والقائم بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته وابن عمه، وتابع عمله الصالح ووارث علمه، سيدنا ومولانا عبد الله ووليه أحمد أبو العباس الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، أيد الله تعالى ببقائه الدين، وطوق بسيفه رقاب الملحدين، وكبت تحت لوائه المعتدين، وكتب له النصر إلى يوم الدين، وكف بجهاده طوائف المفسدين، وأعاذ به الأرض ممن لا يدين بدين، وأعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعليه كانوا يعملون، ونصر أنصاره، وقدر اقتداره، وأسكن في قلوب الرعية سكينته ووقاره، ومكن له في الوجود وجمع له أقطاره.
ولما انتقل إلى الله ذلك السيد ولحق بدار الحق أسلافه، ونقل إلى سرير الجنة عن سرير الخلافة، وخلا العصر من إمام يمسك ما بقي من نهاره، وخليفة يغالب مربد الليل بأنواره، ووارث بني بمثله ومثل أبيه استغنى الوجود بعد ابن عمه خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم عن نبيٍ مقتفٍ على آثاره، ونسي ولم يعهد فلم يبق إذ لم يوجد النص إلا الإجماع، وعليه كانت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا نزاع، اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلسٍ كل طرف به معقود، وعقد بيعةٍ عليها الله والملائكة شهود، وجمع الناس له {ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ له الناسُ وذلِك يومٌ مَشْهُود}. فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلف، ولم يربأ معه وقد مد يده طائعاً بمن مدها وقد تكلف، واجتمعوا على رأيٍ واحدٍ واستخاروا الله تعالى فيه فخار، وناهيك بذلك من مختار، وأخذت يمينٌ تمد إليها الإيمان، ويشد بها الإيمان، وتعطى عليها المواثيق، وتعرض أمانتها على كل فريق، حتى تقلد كل من حضر في عنقه هذه الأمانة، وحط يده على المصحف الكريم وحلف بالله العظيم وأتم إيمانه، ولم يقطع ولم يستثن ولم يتردد، ومن قطع من غير قصدٍ أعاد وجدد، وقد نوى كل من حلف أن النية في يمينه نية من عقدت هذه البيعة له ونية من حلف له، وتذمم بالوفاء في ذمته وتكفله، على عادة إيمان البيعة بشروطها وأحكامها المرددة، وأقسامها المؤكدة، بأن يبذل لهذا الإمام المفترضة طاعته الطاعة، ولا يفارق الجمهور ولا يظهر عن الجماعة انجماعه، وغير ذلك مما تضمنته نسخ الإيمان المكتتب فيها أسماء من حلف عليها مما هو مكتوبٌ بخطوط من يكتب منهم، وخطوط العدول الثقات عمن لم يكتب وأذنوا لمن يكتب عنهم، حسب ما يشهد به بعضهم على بعض، ويتصادق عليه أهل السماء والأرض، بيعةٌ تم بمشيئة الله تمامها، وعم بالصوب الغدق غمامها، {وقالوا الحمدُ لِلَّهِ الذي أذْهَبَ عنَّا الحَزَن}. ووهب لنا الحسن، ثم الحمد لله الكافي عبده، الوافي وعده، الموافي لمن يضاعف على كل موهبة حمده، ثم الحمد لله على نعمٍ يرغب أمير المؤمنين في ازديادها، ويرهب إلا أن يقاتل أعداء الله بأمدادها، ويرأب بها ما آثر فيما أثر مماليكه؟ ما بان من مباينة أضدادها.
نحمده والحمد لله، ثم الحمد لله كلمةٌ لا نمل من تردادها، ولا بخل بما يفوق السهام من سدادها، ولا نظل إلا على ما يوجب كثرة أعدادها، وتيسير إقرار على أورادها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً يتقايس دم الشهداء ومد مدادها، وتتنافس طررالشباب وغرر السحاب على استمدادها، وتتجانس رقومها المدبجة وما تلبسه الدولة العباسية من شعارها، والليالي من دثارها، والأعداء من حدادها، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى جماعة آله من سفل من أبنائها ومن سلف من أجدادها، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وبعد، فإن أمير المؤمنين لما أكسبه الله تعالى من ميراث النبوة ما كان لجده، ووهبه من الملك السليماني عن أبيه ما لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وعلمه منطق الطير بما تتحمله حمائم البطائق من بدائع البيان، وسخر له من البريد على متون الخيل ما سخر من الريح لسليمان، وآتاه من خاتم الأنبياء ما أمده به أبوه سليمان وتصرف، وأعطاه من الفخار ما أطاعه به كل مخلوق ولم يتخلف، وجعل له من لباس بني العباس ما يقضي له سواده بسؤدد الأجداد، وينفض على كحل الهدب ما فضل عن سويداء القلب وسواد البصر من السواد، ويمد ظله على الأرض فكل مكانٍ حله دار ملك وكل مدينةٍ بغداد، وهو في ليله السجاد، وفي نهاره العسكري وفي كرمه جعفرٌ الجواد- يديم الابتهال إلى الله تعالى في توفيقه، والابتهاج بما يغص كل عدوٍ بريقه، ويبدأ يوم هذه المبايعة بما هو الأهم من مصالح الإسلام، وصالح الأعمال مما يتحلى به الإمام، ويقدم التقوى أمامه، ويقرن عليها أحكامه، ويتبع الشرع الشريف ويقف عنده ويوقف الناس، ومن لا يحمل أمره طائعاً على العين حمله بالسيف غصباً على الراس، ويعجل أمير المؤمنين بما يشفي به النفوس، ويزيل به كيد الشيطان إنه يؤوس، ويأخذ بقلوب الرعايا وهو غنيٌ عن هذا ولكن يسوس، وأمير المؤمنين يشهد الله وخليفته عليه أنه أقر كل امرئ من ولاة الأمور الإسلامية على حاله، واستمر به في مقيله تحت كنف ظلاله، على اختلاف طبقات ولاة الأمور، وتفرقهم في الممالك والثغور، براً وبحراً، سهلاً ووعراً، وشرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً، وكل جليلٍ وحقير، وقليلٍ وكثير، وصغير وكبير، وملك ومملوكٍ وأمير، وجنديٍ يبرق له سيفٌ شهير، ورمحٌ طرير، ومن مع هؤلاء من وزراء وقضاةٍ وكتاب، ومن له يدٌ تبقى في إنشاءٍ وتحقيق حساب، ومن يتحدث في بريد وخراج، ومن يحتاج إليه ومن لا يحتاج، ومن في الدورس والمدارس والربط والزوايا والخوانق، ومن له أعظم التعلقات وأدنى العلائق، وسائر أرباب المراتب، وأصحاب الرواتب، ومن له في مال رزقٌ مقسوم، وحقٌ مجهولٌ أو معلوم، واستمرار كل أمرٍ على ما هو عيه، حتى يستخير الله ويتبين له ما بين يديه، فما زاد تأهيله، زاد تفضيله، وإلا فأمير المؤمنين لا يريد سوى وجه الله، ولا يحابي أحداً في دين، ولا يحامي عن أحد في حق، فإن المحاماة في الحق مداجاةٌ على المسلمين، وكل ما هو مستمرٌ إلى الآن، مستقرٌ على حكم الله مما فهمه الله له وفهمه سليمان، لا يغير أمير المؤمنين في ذلك ولا في بعضه، معتبر مستمرٌ بما شكر الله على نعمه وهكذا يجازى من شكر، ولا يكدر على أحدٍ مورداً نزه الله به نعمه الصافية عن الكدر، ولا يتأول في ذلك متأولٌ ولا من فجر النعمة أو كفر، ولا يتعلل متعلل فإن أمير المؤمنين يعوذ بالله ويعيذ أيامه من الغير، وأمر أمير المؤمنين- أعلى الله أمره- أن يعلن الخطباء بذكره وذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق، وأن تضرب باسمهما النقود المتعامل بها على الإطلاق، ويبتهج بالدعاء لهما عطف الليل والنهار، ويصرح منه بما يشرق به وجه الدرهم والدينار، وتباهي به المنابر ودور الضرب، هاتيك ترفع اسمهما على أسرة مهودها، وهذه على أسارير نقودها، وهذه تقام بسببها الصلاة، وتلك تدام بها الصلات، وكلاهما تستمال به القلوب، ولا يلام على ما تعيه الآذان وتوعيه الجيوب، وما منهما إلا من تحدق بجواره الأحداق، وتميل إليه الأعناق، وتبلغ به المقاصد، ويقوى بهما المعاضد، وكلاهما أمره مطاعٌ، من غير نزاع، وإذا لمعت أزمة الخطب طار للذهب شعاع، ولولاهما ما اجتمع جمعٌ ولا انضم، ولا عرف الأنام بمن تأتم، فالخطب والذهب معناهما واحد، وبهما يذكر الله قيماء المساجد، ولولا الأعمال، ما بذلت الأموال، ولولا الأموال، ما وليت الأعمال، ولأجل ما بينهما من هذه النسبة، قيل إن الملك له السكة والخطبة، وقد أسمع أمير المؤمنين في هذا الجمع المشهود ما يتناقله كل خطيب، ويتداوله كل بعيد وقريب، وإن الله أمر بأوامر ونهى عن نواهٍ وهو قريب، وتستفزع الأولياء لها السجايا، وتتضرع الخطباء فيها بنعوت الوصايا، وتكمل بها المزايا، ويتكلم بها الواعظ ويخرج من المشايخ الخبايا من الزوايا، وتسمر بها السمار ويترنم الحادي والملاح، ويروق شجوها في الليل المقمر ويرقم على جنب الصباح، وتعطر بها مكة بطحاءها وتحيا بحديثها قباه ويلقنها كل أبٍ فهم ابنه ويسأل كل ابنٍ أن يجيب أباه، وهو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين رشد وعليكم بينة، وإليكم ما دعاكم به إلى سبيل ربه من الحكمة والموعظة الحسنة، ولأمير المؤمنين عليكم الطاعة ولولا قيام الرعايا بها ما قبل الله أعمالها، ولا أمسك بها البحر ودحا الأرض وأرسى جبالها، ولا اتفقت الآراء على من يستحق وجاءت إليه الخلافة تجر أذيالها، وأخذها دون بني أبيه ولم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها، وقد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح لكم من أبواب الأرزاق، وأسباب الارتفاق، وأحسن لكم على وفاقكم وعلمكم مكارم الأخلاق، وأجراكم على عوائدكم ولم يمسك خشية الإملاق، ولم يبق على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعمل بما ينتفع به من يجيء- أطال الله بقاء أمير المؤمنين- من بعده، ويزيد على كل من تقدم، ويقيم فروض الحج والجهاد، وينيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد، وأمير المؤمنين يقيم على عباده موسم الحج في كل عام، ويشمل سكان الحرمين الشريفين وسدنة بيت الله الحرام، ويجهز السبيل على عادته ويرجو أن يعود إلى حاله الأول في سالف الأيام، ويتدفق في هذين المسجدين بحره الزاخر ويرسل إلى ثالثهما البيت المقدس ساكب الغمام، ويقوم بقومة قبور الأنبياء- صلوات الله عليهم- أين كانوا وأكثرهم في الشام، والجمع والجماعات هي فيكم على قديم سننها، وقويم سننها، وستزيد في أيام أمير المؤمنين بمن انضم إليه، وبما يتسلمه من بلاد الكفار ويسلم على يديه. يلقنها كل أبٍ فهم ابنه ويسأل كل ابنٍ أن يجيب أباه، وهو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين رشد وعليكم بينة، وإليكم ما دعاكم به إلى سبيل ربه من الحكمة والموعظة الحسنة، ولأمير المؤمنين عليكم الطاعة ولولا قيام الرعايا بها ما قبل الله أعمالها، ولا أمسك بها البحر ودحا الأرض وأرسى جبالها، ولا اتفقت الآراء على من يستحق وجاءت إليه الخلافة تجر أذيالها، وأخذها دون بني أبيه ولم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها، وقد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح لكم من أبواب الأرزاق، وأسباب الارتفاق، وأحسن لكم على وفاقكم وعلمكم مكارم الأخلاق، وأجراكم على عوائدكم ولم يمسك خشية الإملاق، ولم يبق على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعمل بما ينتفع به من يجيء- أطال الله بقاء أمير المؤمنين- من بعده، ويزيد على كل من تقدم، ويقيم فروض الحج والجهاد، وينيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد، وأمير المؤمنين يقيم على عباده موسم الحج في كل عام، ويشمل سكان الحرمين الشريفين وسدنة بيت الله الحرام، ويجهز السبيل على عادته ويرجو أن يعود إلى حاله الأول في سالف الأيام، ويتدفق في هذين المسجدين بحره الزاخر ويرسل إلى ثالثهما البيت المقدس ساكب الغمام، ويقوم بقومة قبور الأنبياء- صلوات الله عليهم- أين كانوا وأكثرهم في الشام، والجمع والجماعات هي فيكم على قديم سننها، وقويم سننها، وستزيد في أيام أمير المؤمنين بمن انضم إليه، وبما يتسلمه من بلاد الكفار ويسلم على يديه.
وأما الجهاد، فيكتفي باجتهاد القائم عن أمير المؤمنين بأموره، المقلد عنه جميع ما وراء سريره، وأمير المؤمنين قد وكل إليه- خلد الله سلطانه- عناء الأيام، وقلده سيفه الراعب بوارقه ليسله واجده على الأعداء وإلا سل خباله عليهم في الأحلام، ويؤكد أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب عليه العدا، وانتزاع ما بأيديهم من بلاد الإسلام فإنه حقه وإن طال عليه المدى، وقد قدم الوصية بأن يوالي غزو العدو المخذول براً وبحراً، ولا يكف عمن يظفر به منهم قتلاً وأسراً، ولا يفك أغلالاً ولا إصراً، ولا ينفك يرسل عليهم في البحر غرباناً، وفي البر من الخيل عقباناً، يحمل فيهما كل فارسٍ صقراً، ويحمي الممالك ممن يحوز أطرافها بإقدام، ويتخول أكنافها الأقدام، وينظر في مصالح القلاع والحصون والثغور، وما يحتاج إليه من آلات القتال، وما تجتاح به الأعداء ويعجز عنه المحتال، وأمهات الممالك التي هي مرابط البنود، ومرابض الأسود، والجناح الممدود، ويتفقد أحوالهم بالعرض، بما لهم من خيل تعقد بالعجاج ما بين السماء والأرض، وما لهم من زرد مصون، وبيضٍ مسها ذائب ذهبٍ فكانت كأنها بيضٌ مكنون، وسيوف قواضب، ورماحٍ لكثرة طعنها من الدماء خواضب، وسهام تواصل القسي وتفارقها فتحن حنين مفارق وتزمجر القوس زمجرة مغاضب.
وهذه جملةٌ أراد أمير المؤمنين بها تطييب قلوبكم، وإطالة ذيل التطويل على مطلوبكم، ومأوكم وأموالكم وأعراضكم في حمايةٍ إلا ما أباح الشرع المطهر، ومزيد الإحسان إليكم على مقدار ما يخفى منكم ويظهر.
وأما جزئيات الأمور، فقد علمتم بأن فيمن تقلد عن أمير المؤمنين غنًى عن مثل هذه الذكرى، وفتى حقٍ لا يشغل بطلب شيءٍ فكراً، وفي ولاة الأمور، ورعاة الجمهور، ومن هو سداد عمله، ومداد أمله، ومراد من هو منكم معشر الرعايا من قبله، وأنتم على تفاوت مقاديركم وديعة أمير المؤمنين ومن خولكم وأنتم وهم فيما منكم إلا من استعرف أمير المؤمنين وتمشى في مراضي الله على خلقه، وينظر ما هو عليه ويسير بسيرته المثلى في طاعة الله في خلقه، وكلكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين وله عليكم أداء النصيحة، وإبداء الطاعة بسريرةٍ صحيحة، وقد دخل كلٌ منكم في كنف أمير المؤمنين وتحت رأفته، ولزم حكم بيعته، وألزم طائره في عنقه، ويستعمل كلٌ منكم في الوفاء ما أصبح به عليماً: {ومَنْ أوْفى بما عاهَدَ عليهُ اللَّهَ فسَيُؤْتِيهِ أجراً عظيماً}.
هذا قول أمير المؤمنين، وعلى هذا عهد إليه وبه يعهد، وما سوى هذا فهو فجور لا يشهد به عليه ولا يشهد، وهو يعمل في ذلك كله ما تحمد عاقبته من الأعمال، ويحمل منه ما يصلح به الحال والمآل، وأمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال، ويستعيذ بالله من الإهمال، ويختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل والإحسان، ويحمد الله وهو من الخلق أحمد وقد آتاه الله ملك سليمان، والله تعالى يمتع أمير المؤمنين بما وهبه، ويملكه أقطار الأرض ويورثه بعد العمر الطويل عقبه، ولا يزال على أسرة العلياء قعوده، ولباس الخلافة به أبهة الجلالة كأنه ما مات منصوره ولا ردى مهديه ولا ذهب رشيده.
المقصد السادس فيما يكتب في آخر البيعة:
إذا انتهى إلى آخر البيعة، شرع في كتابة الخواتم على ما تقدم، فيكتب: إن شاء الله تعالى، ثم يكتب التاريخ. ثم الذي يقتضيه قياس العهود أنه يكتب المستند عن الخليفة فيكتب بالإذنِ العالي المولَوِيّ الإماميّ النبويّ المتوكِّليّ- مثلاً- أعلاه الله تعالى وكأن الخليفة الذي عقدت له البيعة هو الذي أذن في كتابتها.
قلت: ولو أسقط المستند في البيعات فلا حرج بخلاف العهود؛ لأنها صادرة عن مولٍ وهو العاهد، فحسن إضافة المستند إليه، بخلاف البيعة فإنها إنما تصدر عن أهل الحل والعقد كما تقدم. ويكتفى في المستند عنهم بكتابة خطوطهم في آخر البيعة كما سيأتي، ثم بعد كتابة المستند- إن كتب- تكتب الحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والحسبلة، على ما تقدم في الكلام على الفواتح والخواتم في مقدمة الكتاب.
ثم يكتب من بايع من أهل الحل والعقد والشهود على البيعة.
فأما من تولى عقد البيعة من أهل الحل والعقد فيكتب: بايعته على ذلك، وكتب فلان بن فلان ويدعو في خلال ذلك قبل اسمه بما يناسب، مثل أن يقال بايعته على ذلك قدس الله خلافته أو زاد الله في شرفه أو زاد الله في اعتلائه وما أشبه ذلك.
وأما الشهود على البيعة فالواجب أن يكتب كلٌ منهم: حضرت جريان عقد البيعة المذكورة، وكتب فلان بن فلان كما يكتب الشاهد بجريان عقد النكاح ونحوه، ولا بأس أن يدعو في رسم شهادته قبل كتابة اسمه بما يناسب، مثل قرنها الله تعالى باليمن أو بالسداد أو عرف الله المسلمين بركتها وما أشبه ذلك.
المقصد السابع في قطع الورق الذي تكتب فيه البيعة والقلم الذي تكتب به وكيفية كتابتها وصورة وضعها:
واعلم أن البيعات لم تكن متداولة الاستعمال لقلة وقوعها، فلم يكن لها قطع ورق، ولا تصويرٌ متعارفٌ فيتبع، ولكنه يؤخذ فيها بالقياس وعموم الألفاظ.
فأما قطع ورقها، فقد تقدم في الكلام على مقادير قطع الورق نقلاً عن محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة أن قطع البغدادي الكامل للخلفاء والملوك، ومقتضى ذلك أن البيعات تكتب فيه، وهو قياس ما ذكره المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف من أن للعهود قطع البغدادي الكامل على ما سيأتي ذكره.
قلت: لكن سيأتي في الكلام على عهود الخلفاء أنها الآن قد صارت تكتب في قطع الشامي الكامل، وبينهما في العرض والطول بون كبير على ما تقدم بيانه في الكلام على قطع الورق، وحينئذٍ فينبغي أن تكون كتابة البيعات في قطع الشامي مناسبةً لما تكتب فيه عهود الخلفاء الآن.
وأما القلم الذي يكتب به فبحسب الورق الذي يكتب فيه؛ فإن كتبت البيعة في قطع البغدادي، كانت الكتابة بقلم مختصر الطومار إذ هو المناسب له، وإن كتبت في قطع الشامي، كانت الكتابة بقلم الثلث الثقيل إذ هو المناسب له.
وأما كيفية الكتابة وصورة وضعها، فقياس ما هو متداول في كتابة العهود وغيرها، أنه يبتدأ بكتابة الطرة في أول الدرج بالقلم الذي تكتب به البيعة سطوراً متلاصقةً لا خلو بينها، ممتدةً في عرض الدرج من أوله إلى آخره من غير هامشٍ. ثم إن كانت الكتابة في قطع البغدادي الكامل، جرى فيه على القاعدة المتداولة في عهود الملوك عن الخلفاء على ما سيأتي ذكره، ويترك بعد الوصل الذي فيه الطرة ستة أوصال بياضاً من غير كتابة، لتصير بوصل الطرة سبعة أوصال، ثم يكتب البسملة في أول الوصل الثامن بحيث تكون أعالي ألفاته تكاد تلحق الوصل الذي فوقه بهامشٍ عريضٍ عن يمينه قدر أربعة أصابع أو خمسةٍ مطبوقةً، ثم يكتب تحت البسملة سطراً من أول البيعة ملاصقاً لها، ثم يخلي مكان بيت العلامة قدر شبر جرياً على قاعدة العهود وإن لم تكن علامةٌ تكتب، كما يخلى بيت العلامة في بعض المكاتبات ولا يكتب فيه شيء، ثم يكتب السطر الثاني تحت بيت العلامة على سمت السطر الذي تحت البسملة في بقية الوصل الذي فيه البسملة، ويحرص أن تكون نهاية السجعة الأولى في أثناء السطر الأول أو الثاني، ثم يسترسل في كتابة بقية البيعة ويجعل بين كل سطرين قدر ربع ذراع بذراع القماش كما سيأتي في العهود، ويستصحب ذلك إلى آخر البيعة، فإذا انتهى إلى آخرها كتب إن شاء الله تعالى ثم التاريخ، ثم المستند، ثم الحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ والحسبلة على ما تقدم بيانه في الفواتح والخواتم في مقدمة الكتاب، ثم يكتب من بايع من أهل الحل والعقد خطوطهم، ثم الشهود على البيعة بعدهم.
وإن كانت الكتابة في القطع الشامي، فينبغي أن ينقص عدد أوصال البياض الذي بين الطرة والبسملة وصلين فتكون خمسة، وينقص الهامش فيكون قدر ثلاثة أصابع على ما يقتضيه قانون الكتابة.
وهذه صورة وضعه في الورق ممثلاً لها بالطرة التي أنشأتها لذلك، والبيعة الثانية من البيعتين اللتين أنشأتهما.
بياض بأعلى الدرج ** بقدر إصبع

هذه بيعةٌ ميمونة، باليمن مبتدأة بالسعد مقرونة، لمولانا السيد الجليل الإمام النبوي المتوكل على الله أبي عبد الله محمدٍ أمير المؤمنين، ابن الإمام المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر العباسي، زاد الله تعالى شرفه علواً، وفخاره سمواً. قام بعقدها السلطان السيد الأعظم، والشاهنشاه المعظم، الملك الظاهر أبو سعيد برقوق، خلد الله تعالى سلطانه، ونصر جيوشه وأعوانه، بمجمعٍ من أهل الحل والعقد، والاعتبار والنقد، من القضاة والعلماء والأمراء، ووجوه الناس والوزراء والصلحاء والنصحاء، وإمضائها على السداد، والنجح والرشاد. على ما شرح فيه.
بياض ستة أوصال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل بيت الخلافة مثابةً وأمناً وأقام بيت العلامة تقدير شبر سوء الإمامة وقايةً للأنام وحصناً، وشدّ منها بالعصابة تقدير ربع ذراع القرشية أزراً وشاد منها بالعصبة العباسية ركناً، وأغاث تقدير ربع ذراع الخلق بإمام هدًى حسن سيرةً وصفا سريرةً فراق صورةً ورق معنى.
ثم يأتي على الكلام إلى آخر البيعة على هذا النمط إلى أن ينتهي إلى قوله: والله تعالى يجعل انتقالهم من أدنى إلى أعلى ومن يسرى إلى يمنى، ويحقق لهم بمن استخلفه عليهم وعده الصادق بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيْسَتخْلِفَنَّهُمْ في الأرْضِ كما استَخْلَفَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَليُمَكِّنَنَّ لهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهمْ أمْناً}.
إن شاء الله تعالى كتب في الثاني من جمادى الأولى مثلاً سنة إحدى وتسعين وسبعمائة بالإذن العالي المولوي الإمامي النبوي المتوكلي مثلاً أعلاه الله تعالى.
الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل بايعته على ذلك بايعته على ذلك بايعته على ذلك قدس الله تعالى خلافته زاد الله تعالى في شرفه زاد الله تعالى في اعتلائه وكتب وكتب وكتب فلان بن فلان فلان بن فلان فلان بن فلان حضرت حضرت حضرت جريان عقد جريان عقد جريان عقد البيعة المذكورة البيعة المذكورة البيعة المذكورة قرنها الله تعالى قرنها الله تعالى عرف الله المسلمين باليمن والبركة بالسداد بركتها وكتب وكتب وكتب فلان بن فلان فلان بن فلان فلان بن فلان.